"الجمل بليرة وليرة ما في".. عيد السوريين بلا طقوس

تقارير وتحقيقات | 28 03 2025

إيمان حمراوي

"الجمل بليرة وليرة مافي"، مثل شعبي يختصر حال السوريين، فحتى مع تراجع الأسعار في بعض الأسواق، لا تزال القدرة الشرائية شبه معدومة. الرواتب تتأخر، المنح لا تصل، والوظائف تضيع، ليجد كثيرون أنفسهم في مواجهة عيد يشبه بقية أيام السنة، ولا يبدو أنه سيترك أثراً للفرح.

مع أواخر العام الفائت ومطلع العام الجاري فرح السوريون لسقوط النظام السابق، وبعدها بدأت ملامح الحياة المعيشية تتغير، أدرك الكثيرون أن أيامهم أصبحت أقسى ولا سيما مع قرارات بفصل آلاف الموظفين لدى القطاع الحكومي، في ظل فقر يعاني منه أكثر من 90 بالمئة من السوريين.

تسير هدى لساعات في السوق، تتأمل واجهات المحال، تجذبها رائحة كعك العيد فتقف عند أحد المحال، تستنشق عبيره بعمق، كأنها تحاول أن تكتفي بالرائحة عوضاً عن الطعم، تبتسم بحسرة ثم تتابع طريقها، فشراء الكعك لم يعد ضمن إمكانياتها هذا العام.

في سوريا، كان العيد يعني الفرح، الملابس الجديدة، الضحكات المتبادلة، ورائحة القهوة والحلوى في البيوت. لكنه اليوم يأتي على الكثيرين بشكل مختلف، ثقيلاً، بلا ضيافة، بلا استعداد، وبلا قدرة على الاحتفال.

قابلنا سوريين وسوريات لنخبركم عن الواقع المعيشي في سوريا خلال عيد هذا العام، حيث تبرز معاناة السوريين من انعدام القدرة الشرائية نتيجة لتأخر الرواتب وارتفاع الأسعار، وكيف أثرت الأوضاع الاقتصادية على احتفالات العيد، ليصبح مجرد أيام عادية تمر دون مظاهر الفرح والتجهيزات التقليدية.

"لا رواتب ولا عيد"

هدى (38 عاماً) معلمة تعيش في حلب، تجد نفسها هذا العام غير قادرة على شراء أي من مستلزمات العيد لها أولابنتيها.

تتحدث بصوت يملؤه الحزن: "لم أشترِ شيئاً، ويبدو أنني لن أفعل فمرتبي يتأخر كثيراً كما اعتدنا خلال الشهور الأخيرة. بناتي؟ سيرتدين ملابسهن القديمة، لن أستطيع شراء أي شيء جديد لهن".

ورغم صدور قرار منتصف الشهر الجاري، ينص على صرف منحة مالية تعادل راتب شهر واحد للعاملين في الدولة من مدنيين وعسكريين ومتقاعدين بمناسبة عيد الفطر، إلا أن الكثيرين لم يحصلوا عليها.

"حتى المنحة لم نقبضها، وحتى لو حصلنا عليها، فهي مخصّصة للطعام والشراب" تقول هدى.

أما زوج هدى، الذي كان يعمل ممرضاً، فُصل من وظيفته مطلع العام الجاري، وهو الآن يعمل في صيدلية لكنه لم يقبض راتبه بعد. تختتم حديثها قائلة: "كيف سيكون هناك عيد؟ ربما هو الأسوأ الذي مرّ علينا، انعدام الرواتب الصفة التي تطغى على هذا العيد".

ومنذ مطلع العام الجاري بدأت حكومة تصريف الأعمال السورية بفصل الكثيرين من موظفي القطاع العام من أعمالهم، ومنح آخرين إجازات قسرية لعدة شهور، في ظل أزمة رواتب بعد سقوط النظام السابق أواخر العام الفائت.

اقرأ أيضاً: "لا للتسريح التعسفي".. احتجاجات عمالية في عدة محافظات سورية

السيدة المتقاعدة هناء، المقيمة في دمشق، كذلك تحدثت لروزنة عن معاناتها في الحصول على مستحقاتها المالية، مؤكدة أن الواقع الحالي أصبح لا يطاق.

تقول بغضب"المنحة نزلت، وهو أمر جيد، لكنني منذ أسبوع، وأنا أتنقل بين البنوك للحصول على مستحقاتي، الناس في حالة من الضياع".

تستكمل: "نزلت من قدسيا إلى البنك في مشروع دمر، وعندما وصلت كان الوضع مزرياً، الناس من الخامسة صباحاً تنتظر في الطوابير، وكلما تقدمت، صدمت بأن شبكة الانترنت لا تعمل، وبدلاً من ثلاثة صرافات شغالة، كان هناك صراف واحد فقط يعمل. حاولت التوجه إلى بنك آخر في المزة، لكن نفس المشكلة، لا يوجد شبكة".

وتضيف: "النظام المصرفي لا يعمل بشكل جيد، طوابير الناس لا تنتهي، وكان الموقف يزداد صعوبة، مما دفعني للانتظار لساعات طويلة حتى شعرت بالتعب والإرهاق. كانت المعاناة واضحة في وجوه الجميع. هل هذا هو الإجراء الصحيح؟".

انقطاع الحوالات أزمة هذا العيد

يختلف هذا العيد على أبو محمد الستيني المقيم في مدينة حلب، عن الأعياد خلال السنوات السابقة حيث كان يعتمد على الحوالات القادمة من لبنان لإدارة الوضع المعيشي وشراء ما يحتاجه، وربما يختلف أيضاً على الكثيرين غيره.

اليوم بعدما عاد أبناؤه إلى حلب إثر سقوط النظام تغيّر الحال وأصبح بلا دخل وبلا دعم مادي بعد توقف الحوالات، ورغم وضعه الصحي المتردي، يعمل بأجر زهيد بالكاد يكفي قوت يومه، ومع ذلك، لم يقبض شيئاً حتى الآن من أسابيع.

يقول لروزنة: "لا يبدو أن هناك عيداً، إذا حصلت على بعض المال قد أشتري القليل من السكاكر، لكن حالياً، لا شيء واضح".

وتشكل الحوالات الخارجية مصدراً رئيسياً لدعم ملايين السوريين الذين يواجهون الفقر المدقع، وتعتبر كـ"شريان الحياة والمنقذ الحقيقي لهم" كما وصفتها دراسة سابقة لمركز "حرمون للدراسات المعاصرة" في ظل معاناة أكثر من 90 بالمئة من السوريين من الفقر.

أما فاطمة (18 عاماً)، ابنة أبو محمد، اختزلت احتياجاتها للعيد في طلب بسيط: "إذا قبض والدي راتبه، سأطلب بيجامة جديدة. لم يعد العيد كما كان، لم يعد يعني الملابس الجديدة والاحتفالات. صار مجرد يوم ننتظر فيه ما نحتاجه للبقاء."

ووفق تقرير لـ"الأمم المتحدة" مطلع العام الجاري، يحتاج نحو 16.7 مليون شخص، ما يزيد عن ثلثي سكان البلاد، إلى أحد أشكال المساعدة الإنسانية، وهناك سبعة ملايين نازح داخلياَ، فيما تستمر معدلات سوء التغذية المزمن في الارتفاع.

وصنف تقرير الأمم المتحدة، سوريا في المرتبة 158 من أصل 160 دولة في "دليل الإسكوا" لتحديات التنمية في العالم لعام 2024، مشيراً إلى مشكلات متجذرة في الحوكمة، والتدهور البيئي، وانتشار الفقر بشكل واسع.

اقرأ أيضاً: حلب.. أزمة الاتصالات تحرم سوريين من شريان الحوالات المالية

العيد براتب لا يكفي شيئاً

حتى جودي، المعلمة في مدرسة خاصة بمدينة حلب، تواجه تحديات مالية كبيرة، إذ لا يكاد راتبها البالغ 400 ألف ليرة (حوالي 33 دولاراً) يغطي أبسط احتياجاتها.

رغم تخفيضات الأسعار، اشترت جودي ملابسها وملابس ابنتها البالغة من العمر 9 سنوات، لكن ما تم شراؤه كان أقل بكثير من احتياجاتها، ولولا الدروس الخصوصية لما استطاعت شراء ذلك.

تقول لروزنة: "اشتريت طقماً على التنزيلات بـ250 ألف ليرة سورية، الحقيبة كلفتني 200 ألف، والحذاء لا يقل عن 170 ألف ليرة. حتى لابنتي البالغة من العمر 9 سنوات، لم أستطع شراء سوى بيجامة قطنية، دفعت ثمنها 250 ألف ليرة، أما الحذاء فبلغ سعره 130 ألفاً".

أما الحلويات والضيافة، فقد أصبحت ترفاً، وفق جودي: "الكيلو من الكعك أو البرازق بـ100 ألف ليرة، لذا قررت أن أصنع المعجنات في المنزل".

أحد أصحاب محال الحلويات قال لـ"روزنة" إن المبيعات تراجعت بشكل ملحوظ مقارنة بالعام الماضي، مشيراً إلى أن الوضع الاقتصادي يزداد سوءاً.

"السنة الماضية، كان لدى السوريين قدرة أكبر على الشراء، سواء عبر الحوالات أو حتى من رواتبهم المتواضعة. أما اليوم، فالوضع مختلف، لا يوجد سيولة بين أيدي الناس حتى لشراء الحد الأدنى من مستلزمات العيد. ربما يتحسن الحال في العام المقبل، لكن في الوقت الحالي، العيد يمرّ بلا نكهة" يقول لروزنة.

الحلويات الفاخرة من الفستق الحلبي والسمن العربي أصبحت حلماً، ولوحات فنية تعرض على واجهات المحال التجارية لا أكثر، إذ يتجاوز سعر الكيلو منها الـ 300 ألف ليرة، ما يعادل راتب موظف لشهر واحد.

مثلاً سعر كيلو المبرومة وصل إلى 275 ألف ليرة سورية، والبلورية 270 ألف والكنافة بالفستق الحلبي 275 ألف، وزنود الست بـ 34000 ألف، أما البقلاوة بجوز 90 ألف، مع تفاوت الأسعار بين محل وآخر.

واقع العيد في القامشلي

رغم اقتراب العيد، لا تبدو الأسواق في القامشلي كعادتها، فالحركة موجودة منذ أسبوع، لكن الشراء محدود.

يصف حسن، أحد سكان المدينة، المشهد لروزنة قائلاً: "الناس تشتري حاجاتها بكميات قليلة، وبشكل رئيسي الأشياء الضرورية. الموظفون الحكوميون منذ أربعة شهور لم يستلموا رواتبهم، وكل مصاريفهم تذهب فقط للأساسيات".

حسن، وهو موظف حكومي يعيل أسرة من خمسة أفراد، يجد نفسه عاجزاً عن تأمين ملابس العيد لأطفاله كما اعتاد: "حتى أجهّز أطفالي للعيد كما يجب، أنا بحاجة لحوالي مليونين ونصف ليرة سورية، أي حوالي مئتي دولار، لكن هذا مستحيل في ظل الوضع الحالي. لذلك، اكتفيت بالجلوس في المنزل حتى أخفف من الأعباء".

ولا يقتصر الأمر على الملابس، بل حتى ضيافة العيد تأثرت بالأزمة يضيف حسن: "اعتمدنا على الأساسيات فقط، مثل نوعين من السكر. لكن لا حلويات، لا كيك، ولا كليجة، كلها استغنينا عنها بسبب الأوضاع الاقتصادية".

أما عن الراتب الذي ينتظره حسن منذ أشهر، فيعلق بمرارة: "راتبي 350 ألف ليرة، لكنه لم يصلني بعد، وحتى لو قبضته، لا أدري كيف يمكن أن يغطي شيئاً".

اقرأ أيضاً: الليرة السورية تترنح صعوداً وهبوطاً: لعبة الصرافين تتفاقم والبنك المركزي غائب

في حماة.. فرحة العيد في إعادة التدوير

في حماة أيضاً يبدو أن هذا العيد مختلف تماماً عن الأعياد السابقة. كما يروي أبو أحمد لروزنة: "لا عيد هذا العام، فالأسواق شبه فارغة. الحركة التجارية تكاد تكون معدومة، لا تتجاوز 5 أو 6 بالمئة مما كانت عليه في السنوات الماضية".

لجأ الكثير من الناس إلى شراء الملابس المستعملة (البالة)، التي أصبحت الخيار الوحيد للكثيرين في ظل الغلاء "هناك نوع من التعاون، على مبدأ (فيد واستفيد) الناس تعيد تداول الملابس فيما بينها لتخفيف العبء على ميزانيتها" يقول أبو أحمد.

ويشير إلى أن معظم مصاريف الأسر تذهب في هذه الأيام إلى الطعام والمحروقات، بينما أصبح الراتب لا يكفي سوى لبضعة أيام: "الراتب لا يكفي، لا يبقى منه شيء بعد يومين. البعض يعتمد على مساعدات من أهل الخير، ولكنها بالكاد تكفي لسد حاجاتهم الأساسية".

سمير، أحد أصحاب محال الألبسة يقول لروزنة إن التسوق كأنه أصبح "حكراً على الأغنياء" حتى الطبقة المتوسطة، التي كانت تحاول تأمين ملابس العيد لأطفالها، تراجعت قدرتها على الشراء بشكل كبير، حيث باتت تقتصر على الضروريات فقط.

ويعزو السبب إلى الانخفاض في سعر الدولار، مع ثبات الأسعار ما جعل القوة الشرائية للناس أضعف من أي وقت مضى.

اقرأ أيضاً: دمشق: البالة تغزو الأسواق الشعبية والشوارع.. فوضى وازدحام

ووفقاً لبيانات "مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة" مطلع العام الجاري، بلغ وسطي تكاليف معيشة أسرة مكونة من خمسة أفراد نحو 14 مليون ونصف المليون ليرة سورية (1200 دولار) شهرياً، في وقت يبلغ متوسط راتب موظف حكومي 400 ألف ليرة سورية، وسط وعود بمضاعفة الراتب إلى 400 بالمئة منذ شهرين.

ويعيش نصف سكان سوريا في فقر مدقع، في وقت لا تزال تشهد الليرة السورية تدهوراً مستمراً، وفق تقرير للأمم المتحدة مطلع العام الجاري، جاء فيه أنّ الليرة السورية فقدت عام 2023 حوالي ثلثي قيمتها، ما رفع معدل التضخم الاستهلاكي إلى 40 بالمئة خلال عام 2024.

في سوريا اليوم، لا يسأل عن سعر الحلويات أو الملابس الجديدة، بل عن وجود المال من الأساس. العيد يمر، لكن بهجة العيد باتت غائبة، واستبدلت بواقع مرير مليء بالصعوبات. في ظل هذه الظروف، يبقى الأمل في غد أفضل، لكن اليوم لا يحتفل بالعيد كما اعتدنا.

بودكاست

شباب كاست

بودكاست مجتمعي حواري، يُعدّه ويُقدّمه الصحفي محمود أبو راس، ويُعتبر منصة حيوية تُعطي صوتًا للشباب والشابات الذين يعيشون في شمال غرب سوريا. ويوفر مساحة حرّة لمناقشة القضايا والمشاكل التي يواجهها الشباب في حياتهم اليومية، بعيدًا عن الأجواء القاسية للحرب.

شباب كاست

بودكاست

شباب كاست

بودكاست مجتمعي حواري، يُعدّه ويُقدّمه الصحفي محمود أبو راس، ويُعتبر منصة حيوية تُعطي صوتًا للشباب والشابات الذين يعيشون في شمال غرب سوريا. ويوفر مساحة حرّة لمناقشة القضايا والمشاكل التي يواجهها الشباب في حياتهم اليومية، بعيدًا عن الأجواء القاسية للحرب.

شباب كاست

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط “الكوكيز” لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة.

أوافق أرفض

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط “الكوكيز” لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة.

أوافق أرفض