تقارير وتحقيقات | 13 02 2025

في زاوية ما يجلس رجل مسنّ على شرفته، يحتضن مذياعه العتيق كما لو كان صديقاً قديماً، وفي مكان آخر، تنصت أم لصوت الراديو بينما تجهّز وجبة الصباح لأطفالها، وعلى الطريق السريع، يصاحب صوت المذياع السائقين العائدين إلى بيوتهم بعد يوم طويل.
بين هذه المشاهد اليومية، يظلّ الراديو أكثر من مجرد وسيلة إعلامية، هو ذاكرة حيّة وشاهد على نبض الحياة، وليس ذلك فقط، بل هو جرس إنذار يحذّر من الخطر الذي يهدّد الأرض مع تغيّر المناخ.
"الإذاعة وتغيّر المناخ"
وفي وقت يعاني العالم من مشكلة الاحتباس الحراري، ويتطلب إجراءات عاجلة، للحد من ارتفاع حرارة الأرض، يبرز دور الإذاعة في توعية الجمهور حول تغيّر المناخ من خلال تقديم معلومات موثوقة ومستقلة.
"عائلتي وأنا نسينا شيء اسمه تلفزيون، اعتمادنا لمعرفة ما يحيط بنا من أخبار بكافة أنواعها، بما في ذلك أخبار البيئة والطقس، على الراديو" يقول محمود شاب من مدينة دمشق لروزنة.
لا يستطيع محمود الاستغناء عن الراديو ليلاً أو نهاراً، ويفضله على التلفاز، وفق قوله، ويضيف: "هو طريقنا المنير لمعرفة ما يجري حولنا، ويساهم بشكل كبير في رفع الوعي".
من جهتها توضح نتالي لروزنة، أنّ "انقطاع الكهرباء لساعات طويلة في سوريا دفع الكثيرين للاعتماد على الراديو". إذا يعاني السوريون منذ سنوات من شبه انقطاع تام للكهرباء، بسبب نظام التقنين الكهربائي المتبع من قبل النظام السابق خلال سنوات الحرب.
وتعمل الإذاعة بدون كهرباء أو إنترنت وتتمتع بالقدرة على الوصول إلى عدد كبير جداً من الأشخاص في وقت واحد، ولا تتأثر بمشكلات التوزيع الأرضي أو التوزيع عبر الأقمار الصناعية.
اقرأ أيضاً: في "بلد العتمة".. كيف يتابع السوريون مسلسلات رمضان 2024؟
"الأمم المتحدة" خصّصت "اليوم العالمي للإذاعة 2025" والذي يصادف اليوم الخميس، تحت عنوان: "الإذاعة وتغيّر المناخ" لدعم المحطات الإذاعية في تغطيتها الإعلامية لهذا الموضوع.
ووفق اتفاق باريس، يمثّل عام 2025 عاماً فاصلاً فيما يتعلق بتغيّر المناخ، فإذا أرادت البشرية الحد من الاحتباس الحراري لكوكب الأرض بحيث لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية، يجب أن تصل انبعاثات الغازات الدفيئة إلى ذروتها هذا العام على أبعد تقدير قبل أن تأخذ في الانخفاض.
دور الإعلام في تعزيز الوعي البيئي؟
يشكل الإعلام، وبخاصة الإذاعة، ركيزة أساسية في نشر الوعي البيئي وقضايا المناخ، ويلعب دوراً أساسياً في تسليط الضوء على المشكلات البيئية منذ بدايتها وليس بعد وقوعها فقط، يقول الصحفي المتخصص بقضايا البيئة والمناخ، زاهر هاشم.
ويؤكد هاشم، خلال مقابلة مع راديو "روزنة" على أهمية أن يكون الإعلام راصداً للتغيرات البيئية بشكل دائم، والعمل على نقل المعرفة والاهتمام والقلق البيئي للجمهور في مراحل مبكرة، ما يساهم في تكوين وعي بيئي فاعل في المجتمع.
ويجب أن يكون الإعلام أداة فعالة في تبسيط المفاهيم البيئية، مما يسهم في تحسين الوعي البيئي لدى الجماهير وتعزيز إدراكهم للمشكلات البيئية وطرق حلها.
ويتطلب ذلك تقديم المعلومات البيئية بأساليب مبسطة وجذابة، مثل إنتاج أفلام وثائقية تسلط الضوء على تأثير الأنشطة البشرية على الطبيعة، وعرض قصص توضح آثار التلوث على الصحة العامة، يوضح هاشم خلال حديثه عن دور الإعلام في تعزيز الوعي البيئي.
ولا يقتصر دور الإعلام البيئي على نشر الأخبار البيئية فقط، بل يشمل الترويج للسلوكيات المستدامة مثل تقليل استخدام البلاستيك، وترشيد استهلاك المياه والكهرباء، والاعتماد على وسائل النقل المستدامة والطاقة المتجددة.
التوجه إلى أصحاب القرار
يجب أن يتوجه الخطاب الإعلامي إلى المسؤولين وأصحاب القرار للضغط من أجل اتخاذ إجراءات بيئية فعالة، وعدم الاكتفاء بالتوعية فقط، وفق هاشم.
ويؤكد أنه يجب على الإعلام أن يكون رقيباً على عمل المؤسسات الحكومية والمساءلة حول استنزاف الموارد الطبيعية وقطع الأشجار والتلوث وغير ذلك من الممارسات الضارة بالبيئة.
ونشرت روزنة في وقت سابق تحقيقاً حول أثر الحرب في سوريا خلال عقد من الزمان على الأراضي الممتدة من ريف حلب إلى ريف إدلب الشرقي، وتتبع الأثر البيئي الذي خلّفه النزاع المسلح والأسلحة على الأراضي الزراعية والأشجار والتربة بشكل خاص.
اقرأ أيضاً: الأرض المسمومة في سوريا.. كيف أدت سنوات الصراع إلى تلويث وتدمير الأراضي السورية؟
وتلعب الصحافة الاستقصائية دوراً رئيسياً في كشف التجاوزات البيئية والممارسات الضارة التي تقوم بها بعض الشركات والجهات المسؤولة عن تلويث البيئة.
ويشير هاشم إلى أن تلك التحقيقات تساعد في زيادة الوعي العام والضغط على الشركات لتغيير سياساتها، مثل الحملات الشعبية لمقاطعة الشركات التي تساهم في التلوث، كما حدث مع إحدى شركات المشروبات الغازية التي تسببت في انتشار التلوث البلاستيكي عالمياً.
وكانت شركة "كوكا كولا" أسوأ ملوث للبلاستيك في العالم للسنة الرابعة على التوالي في عام 2021، وفق تقرير للتحالف العالمي "Break Free From Plastic"، بحسب وكالة "رويترز".
وأعلنت الشركة عام 2022 عن هدفها بجعل 25 بالمئة من عبواتها قابلة لإعادة الاستخدام بحلول عام 2030، بعد انتقادات من الجماعات البيئية بسبب التلوث البيئي الناتج عن البلاستيك.
وتُعد كوكا كولا هدفاً رئيسياً للجماعات البيئية التي تشعر بالقلق حيال العبوات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد المصنوعة من البلاستيك القائم على البترول، والتي تسد المحيطات، من بين مشاكل أخرى.
اقرأ أيضاً: الأكياس البلاستيكية خطر على البيئة.. كيف نستفيد منها؟
التحديات التي تواجه الإعلام البيئي
يواجه الإعلام البيئي تحديات عديدة، بحسب هاشم، من بينها ضعف التمويل وغياب الميزانيات الكافية لإنتاج برامج بيئية إذاعية أو تلفزيونية ذات جودة عالية.
وتشير "اليونيسكو" إلى أنّ ندرة الموارد المالية المتاحة للمحطات الإذاعية في الآونة الأخيرة، أفضت إلى تقليص عدد العاملين تقليصاً قسرياً، وهو ما ساهم في زيادة تكاليف الاستعانة بالمصادر لغرض الحصول على معلومات موثوق بها، وهو أمر تعاني منه المحطات الإذاعية المحلية بوجه خاص.
إضافة إلى ذلك، يشير هاشم أنه غالباً ما يكون الاهتمام بالقضايا البيئية موسمياً، حيث لا يتم تسليط الضوء عليها إلا عند وقوع كوارث بيئية أو أثناء المؤتمرات المناخية، مما يجعلها تفتقر إلى التغطية الدورية والمستمرة.
كما أن بعض الجهات تنظر إلى القضايا البيئية على أنها رفاهية أو ترف، مقارنة بالتحديات السياسية والاقتصادية، وهو ما يؤثر على مستوى الاهتمام الإعلامي بهذه القضايا، يضيف.
قد يهمك: ما لا تعرفه عن الأكواب الورقية.. بديل صديق للبيئة أم مصدر للسموم؟
وسائل الإعلام السورية ودورها في تعزيز الاهتمام بالبيئة
في السياق السوري، يرى الصحفي المتخصص بقضايا المناخ والبيئة، أن مفهوم البيئة يجب أن يتوسع ليشمل ما يُعرف بـ"البيئة المشيدة"، مثل المباني والطرق والجسور، وكل ما يتم تصميمه لتحسين حياة الأفراد والمجتمعات مع مراعاة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
ويوضح أنه من دون تحقيق التوازن بين تلك العناصر "البيئة والاقتصادي والمجتمع" التي تشكل ما يسمى "حلقة الاستدامة" لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة.
وفي سوريا، هناك أولويات بيئية ملحة، يقول هاشم، مثل إزالة الأنقاض ومخلفات الحرب والتوعية بمخاطرها وإمكانية إعادة تدويرها والاستفادة منها.
أيضاً تتداخل القضايا البيئية مع الجوانب الاجتماعية، مثل مكافحة الفقر، وتحقيق التعليم الجيد، وضمان الصحة العامة، والمساواة بين الجنسين، وتوفير مياه نظيفة وآمنة، وإعادة بناء الاقتصاد الوطني.
لذلك، يصبح من الضروري زيادة البرامج التوعوية التي تركز على هذه الجوانب البيئية والاجتماعية، إلى جانب تعزيز دور الإعلام في مراقبة الأداء الحكومي والمساءلة البيئية، بما يضمن تحقيق بيئة أكثر استدامة وصحة للأجيال القادمة، يختم هاشم حديثه مع روزنة.
وعملت راديو روزنة في سلسلة من موادها التقريرية خلال سنوات على رفع الوعي حول القضايا البيئية، وتعزيز عادات سلوكية لحياة مستدامة، مثل البلاستيك وأضرار استخدامه والبدائل، وإعادة تدوير المواد المنزلية مثل القماش والبلاستيك وغير ذلك.
في ظل التحديات البيئية المتزايدة، يظل الإعلام، وخاصة الإذاعة، أداة قوية في رفع الوعي البيئي والتأثير في سلوك الأفراد والمجتمعات. ومع تزايد تأثير تغيّر المناخ، تبرز الحاجة إلى إعلام بيئي مستدام يُسلط الضوء على القضايا البيئية بانتظام.
ومن خلال تعزيز المعرفة والمساءلة، يمكن للإذاعة أن تكون شريكاً أساسياً في الجهود العالمية لمواجهة الاحتباس الحراري وتحقيق مستقبل أكثر استدامة للأجيال القادمة.