تقارير وتحقيقات | 30 04 2025

قبل عامين بدأت الحرب في السودان ومعها تغيرت حياة آلاف السوريين هناك، منهم من استطاع الهروب إلى بلدان مختلفة، فيما بقي المئات عاجزين وعالقين بلا حلول، وسط أوضاع معيشية واقتصادية متردية وغرامات حكومية في إطار "مخالفة الإقامة" ضاعفت معاناتهم ومنعتهم من مغادرة البلد.
مناشدة جماعية أطلقها سوريون في السودان، لوزارة الخارجية بالحكومة السورية الانتقالية، لمساعدتهم بشكل عاجل من أجل النظر في عدة قضايا عالقة تمنعهم من مغادرة السودان إلى سوريا، أبرزها "فرض غرامات مالية باهظة لمخالفي الإقامة" لم يستطيعوا دفعها جراء الحرب التي لم تنتهِ بعد.
تواصل سوريون مع روزنة، بالأيام الفائتة، ونعرض في المادة التالية ما أسموه "مناشدة إلى الخارجية السورية"، في ظل غياب سفارة سورية منذ عامين في السودان، وتشديدهم على مسألة الضغط على حكومة الخرطوم حتى "الإعفاء من الغرامات" أسوة بإعفائها لليمنيين بسبب ظروفهم الإنسانية.
ومنذ بدء الحرب السودانية لم يستطع السوريون في السودان من تجديد إقاماتهم، وهو ما جعلهم مخالفين، لتفرض عليهم الحكومة السودانية غرامات مرتفعة مطلع العام الجاري مع باقي الأجانب.
ومنذ نيسان 2023 شهد السودان تصعيداً ملحوظاً في تطبيق قوانين الإقامة على الأجانب، بما في ذلك فرض غرامات وعمليات ترحيل، مما أثّر بشكل خاص على الجالية السورية.
في تموز 2024، أصدرت سلطات ولاية الخرطوم تحذيراً للأجانب بضرورة تقنين أوضاعهم القانونية، مهددة باتخاذ إجراءات قانونية ضد المخالفين. جاء ذلك في ظل اتهامات بوجود أجانب يقاتلون إلى جانب قوات الدعم السريع، مما زاد من التوترات تجاه الأجانب في البلاد، وفق موقع "سوادن تريبون".
ومنذ منتصف نيسان 2023، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في مناطق سودانية مختلفة، وبشكل خاص في الخرطوم العاصمة، ولا تزال الحرب مستمرة حتى اليوم ودخلت عامها الثالث.
أحمد: "نريد فقط أن نعود إلى أهلنا... لكن الغرامات تمنعنا"
منذ اندلاع الحرب في السودان، تغيّر كل شيء بالنسبة لأحمد، الشاب السوري الذي يقيم هناك منذ سنوات. كان يعتقد أن وجوده مؤقت، وأنه سيعود يوماً إلى بلده، لكن الحياة توقفت، والطرق أُغلقت، والأعباء تراكمت.
"علينا ضرائب وغرامات لا نقدر على دفعها، نحن في حالة حرب، لا نستطيع العودة إلى بلدنا، ولا البقاء هنا بكرامة"، يقول أحمد بصوت متعب لروزنة، مضيفاً: "ما بدنا شيء (...) بس نرجع نشوف أهلنا بسوريا".
كانت الغرامات اليومية على مخالفي الإقامة قبل الحرب لا تتجاوز 3 آلاف جنيه سوداني في اليوم، أي نحو دولار واحد. أما اليوم، فقد قفزت إلى 14 ألف جنيه سوداني في اليوم الواحد، تتراكم هذه الغرامات على مدى فترة المخالفة، ما يشكل عبئاً مالياً كبيراً، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
ويبلغ سعر صرف الدولار 2500 جنيه سوداني في السوق السوداء، أما في المصرف المركزي الرسمي لم يتغير السعر منذ عامين وهو 600 جنيه سوداني لكل دولار، إلا أن الغرامة تحسب وفق سعر الصرف في السوق السوداء، وفق أحد السوريين لروزنة، الذي يعمل على دفع غرامته حالياً.
يشرح أحمد أن السلطات السودانية أوقفت منح الإقامات للسوريين منذ بدء الحرب، ومنذ ذلك الحين، تراكمت المخالفات: "اليوم، إن أراد أحد السفر، عليه أن يدفع غرامات عن عامين على الأقل، ما يعادل حوالي ألفي دولار. من أين نأتي بهذا المبلغ؟ العامل بالكاد يجني 350 دولاراً شهرياً، لا تكفي حتى للطعام والسكن".
ويضيف بحسرة أن إقامته انتهت قبل اندلاع الحرب بشهر، وكان ينتظر انتهاء شهر رمضان لتجديدها، لكن اندلاع القتال حال دون ذلك، قائلاً: "لم أستطع فعل شيء. فقط انتظرت، كما انتظر الجميع، ومع كل يوم، زادت الغرامات".
ما يزيد من قسوة الوضع، بحسب أحمد، أن الحكومة السودانية كانت قد أصدرت عفواً عن غرامات الإقامة لليمنيين في آذار الماضي، ويطالب مع آخرين بمعاملة رسمية سودانية مماثلة لهم، موجهين رسالتهم للحكومة السورية للتواصل مع السودان "لمراعاة ظروفنا والسماح لنا بالخروج".
يختم أحمد، مشدداً: "لا أحد هنا يملك القدرة على الدفع، حتى نصف المبلغ لا نستطيع تأمينه".
وفي مطلع العام الفائت أصدرت السلطات السودانية قراراً بإعفاء اليمنيين المقيمين في البلاد من دفع رسوم تسوية السفر والغرامات المترتبة على الإقامة، مراعاة لأوضاعهم وتخفيفاً لمعاناتهم.
قد يهمك: أشهر من الوعود الوهمية.. سوريون عالقون في السودان يناشدون الإجلاء
العودة إلى سوريا: حلم بعيد المنال
يحلم كثير من السوريين في السودان بالعودة إلى وطنهم، لكنهم يقفون عاجزين أمام الإجراءات الصعبة.
يقول يامن لروزنة: "أنا كان عندي إقامة انتهت مع بداية الحرب، وفي المحكمة حكموا علي بالترحيل بسبب ذلك. لكن الغرامات التي يجب دفعها لنستطيع السفر تجعل العودة إلى سوريا حلماً بعيداً".
ويوافقه في الرأي معن، الذي أضاف: "الغرامات التي فرضوها على السوريين كبيرة جداً، وأنا بدأت أعمل على تجديد إقامتي، لكنني بحاجة إلى دفع 5 مليون جنيه سوداني (حوالي ألفي دولار)، وهذا مبلغ ضخم لا أستطيع تحمله، وذلك بعدما خفضوا الرقم من 10 مليون (4 آلاف دولار) إلى 5 مليون".
وأدى عامان من الصراع في السودان إلى أكبر أزمة إنسانية ونزوح في العالم، فهناك أكثر من 11.3 مليون شخص نازح داخليا في البلاد، بينما لجأ 3.9 مليون عبر الحدود إلى الدول المجاورة خلال العامين الماضيين وحدهما، بحثا عن الأمان والغذاء والمأوى، وفق تقرير لـ"الأمم المتحدة" منتصف الشهر الجاري.
وداخل السودان، يحتاج أكثر من 30 مليون شخص، أي ثلثي سكان البلاد، إلى مساعدة إنسانية عاجلة، بمن فيهم 16 مليون طفل.
المشاكل لا تقتصر على الغرامات فقط، بل تتعداها إلى الظروف المعيشة الصعبة. يقول محمد: "الإيجار في بورتسودان الآن يصل إلى ألفي دولار شهرياً، بينما العامل العادي لا يتجاوز راتبه 400 دولار. الأسعار ترتفع بشكل مستمر، ولا يوجد أي أفق لتحسن الأوضاع"، فيما يعاني كثير من السوريين من البطالة.
"أطفالي ضاع مستقبلهم بين مراكز الإيواء... ولا أحد يسمع صوتنا"
منذ 2013، غادرت أم أحمد ( الاسم الذي فضلت التعريف عن نفسها به) السيدة السورية بلادها على أمل العودة القريبة، لكن اليوم، بعد أكثر من 13 عاماً، ما تزال عالقة في السودان، في مدينة كسلا شرقي البلاد، مع أولادها الأربعة، تعيش في مركز إيواء يفتقر لأبسط مقومات الحياة.
"نعيش هنا في ظروف لا تُحتمل (...) انقطاع متكرر للكهرباء والمياه، حرارة خانقة، أمراض بسبب سوء التغذية، ولا علاج"، تقول أم أحمد البالغة من العمر 52 عاماً.
تزوجت أم أحمد من رجل سوداني قبل سنوات طويلة، وكانا يعيشان في سوريا. لكن حين عاد زوجها لتجديد إقامته، اضطرا للرحيل من سوريا. منذ ذلك الحين، لم يتمكنا من العودة.
وتتابع السيدة: "فوجئت حين راجعت السفارة السورية بأنهم صنفوني كمستقيلة فور خروجي من البلاد. قالوا لي: يمكنك العودة وحدك فقط، أما أولادك وزوجك فلا يستطيعون".
تشعر أم أحمد بالعجز والخوف، تقول: "كيف يمكن أن أتركهم؟ ابنتي زوجها مختفٍ، وأنا مسؤولة عنهم جميعاً. لا نملك شيئاً نبيعه لندفع ثمن التذاكر، حتى إننا غير مشمولين بأي حماية من أي منظمة".
وتضيف: "بصفتي امرأة سورية متزوجة من سوداني، من حقي أن أعود مع عائلتي. النساء السوريات اللواتي تزوجن من سودانيين أعدادهن كبيرة ولا جهة تحمينا. حتى منظمة شؤون الأجانب قالت لنا بالحرف: لا يوجد شيء يمكننا تقديمه".
أصعب لحظاتها، كما تصفها، كانت عندما اضطرت للإقامة مع أطفالها لسبعة أشهر على سطح مدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء. "كنا ننام على الأرض، لا فرش، لا أغطية، لا شيء. الحرارة تلامس 45 درجة مئوية. كيف نعيش؟ كيف يدرس أولادنا؟ لا مدارس، لا مستقبل لهم".
تختم حديثها بنداء يائس: "نحن ننتظر الفرج. لم تُجْلِنا أي دولة كما أجلت غيرنا من رعاياها. نأمل أن يصل صوتنا إلى وزارة الخارجية السورية. نريد فقط أن نعود... بكرامتنا".
الحاجة الماسة للتدخل الحكومي
في ظل هذه الأوضاع، يطالب السوريون بالتدخل السريع من الحكومة السورية.
من ضمن الحلول المقترحة من قبل السوريين هي فتح السفارة السورية في السودان، وتسهيل إجراءات العودة إلى سوريا دون أن تترتب عليها غرامات أو عقوبات.
"المطلوب هو تعيين سفير سوري في السودان، وتخفيض أو إعفاء السوريين من الغرامات، وتمكينهم من العودة إلى سوريا بطرق أسهل وأقل تكلفة"، يقول مهند، أحد المقيمين في بورتسودان.
ويضيف: "العديد من السوريين في المخيمات لا يحصلون على أبسط مقومات الحياة، وعلى الحكومة السورية التحرك بسرعة لتوفير الحلول العاجلة".
سوريون في السودان بلا حماية ويواجهون الترحيل
مئات السوريين يواجهون اليوم مصيراً مجهولاً في ظل انعدام الحماية وغياب الدعم من السفارة السورية الغائبة.
ومطلع الحرب السودانية غادر موظفو السفارة السورية العاصمة الخرطوم التي اندلعت الحرب فيها، بداية إلى مدينة بورتسودان الساحلية التي انطلقت منها عدة رحلات إجلاء لاحقاً.
ووعد موظفو السفارة حينها السوريين ممن ينتظرون الحصول على جوازات سفرهم بتأمينها لهم من أجل تسهيل مغادرتهم السودان، لكن ما حصل لاحقاً أن تخلت السفارة عنهم واختفت مع آلاف الجوازات، وفق شهادات سوريين لروزنة.
محمد قباني، موظف سوداني سابق في السفارة السورية بالخرطوم عمل فيها لمدة 23 عاماً، يتحدث عن الأوضاع الصعبة التي يعيشها السوريون في السودان في ظل الأزمة الحالية.
ويوضح قباني لروزنة أن "الأوضاع صعبة للغاية. معظم السوريين يحاولون العودة إلى سوريا، لكن الكثير منهم لا يمتلك مصادر دخل ويعيشون في ظروف اقتصادية تحت الصفر، إضافة إلى أن العديد منهم ليس لديهم جوازات سفر، أو انتهت صلاحيتها. والتهديدات بالاحتجاز مستمرة بسبب مخالفات الإقامة. الوضع يتطلب تدخل الحكومة السورية بشكل عاجل".
اقرأ أيضاً: سوريون في السودان: عيدٌ تحت وطأة الحرب والنزوح
ما الحل؟
يطالب قباني بتدخل فوري من الخارجية السورية لتأمين حماية لمواطنيها وتوفير جوازات مرور للراغبين بالعودة، قبل أن تتدهور الأوضاع أكثر، ولا سيما في ظل وجود غرامات مالية مرتفعة.
ويضيف: "مع بدء الحرب لم تقدم السفارة السورية الدعم الكافي للسوريين، الحرس في السفارة كانوا أول من غادروا، تاركين خلفهم المواطنين السوريين بدون دعم".
إن الغرامات مفروضة على كل الأجانب وليس فقط على السوريين، لكن هناك حملة ضد السوريين بسبب انتشار صور للبعض مع الدعم السريع في عدة مناطق دخل إليها الأخير في إطار التعاون، وهو ما تعتبره الحكومة السودانية، مهدّد أمني للبلد و دور سلبي للأجانب.
ويشدد أن السوريين يحتاجون إلى حل سريع، قبيل تعيين موظفي سفارة سورية في السودان.
ويرى قباني أن الحكومة السورية تستطيع حل أمر السوريين العالقين من خلال طائرات إجلاء مجانية، والعمل على أمر إعفاء السوريين من الضرائب قبل تكوين أعضاء السفارة الجدد، لعدم تراكم الغرامات، عبر تحرك سريع من قبل الخارجية السورية والسفارة السودانية في دمشق، وهو أمر بسيط برأيه.
ويشير قباني إلى أن إيفاء الغرامات يكون في شؤون الأجانب، ولا أحد يستطيع أن يعفي أي شخص من الغرامات إلا من قبل وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم.
ويوضح أنه قبل أسبوعين بدأت حملة قوية لترحيل المخالفين لنظام الإقامة، وقد تشمل أيضاً السوريين، ولا سيما أنّ السجون غير مهيأة وغير مؤهلة، يجب على الحكومة السورية التدخل بشكل عاجل.
قبل الحرب كان عدد السوريين في السودان عام 2019 حوالي 80 ألف سوري، بعد ذلك بدأ الوضع الاقتصادي بالتراجع وتراجع معه عدد السوريين، وحالياً قد لا يتجاوز عددهم الألفين، وفق قباني.
بعد اندلاع الثورة السورية في 2011، فتح السودان أبوابه لنحو آلاف السوريين، مانحاً إياهم حق الإقامة والعمل دون تأشيرة. سرعان ما اندمج السوريون في المجتمع، وأسهموا في تنشيط قطاعات كالمطاعم والتجارة، بل مُنح بعضهم فرصة التقدّم للجنسية بعد ستة أشهر من الإقامة.
لكن هذا الترحيب تغيّر بعد سقوط نظام البشير في 2019 وتدهور الاقتصاد، بدأت الحكومة الانتقالية بفرض قيود جديدة، أبرزها إلغاء الإعفاء من التأشيرة وفرض رسوم مرتفعة على تصاريح العمل، وتدهورت أوضاع السوريين بشكل أكبر مع اندلاع الحرب السودانية في نيسان 2023 حتى اليوم.