تقارير وتحقيقات | 26 03 2025

محل، محلّان، ثلاث، السؤال كان عن التمر الهندي والجواب "مفقود"، هذه هي الحالة الجديدة في مدينة غازي عنتاب جنوبي تركيا بعد أن بدأت معاملها وورشها السورية تتحضّر للعودة إلى سوريا، في أجل قريب هو بعد عيد الفطر، أو بعيد مع صيف هذا العام.
وأغلقت العديد من المحال والشركات أبوابها وانتقلت إلى الداخل السوري خلال الشهور الأخيرة، إذ بدأ سوريون في ولاية غازي عنتاب بعد سقوط النظام السوري، بالتفكير جدياً في العودة للبلاد، ما أدى إلى موجة من إغلاق المحال التجارية والمصانع السورية في الولاية.
ووفق التصريحات الأخيرة لنائب الرئيس التركي جودت يلماز، عاد 145 ألفاً و639 سورياً من تركيا إلى سوريا منذ سقوط النظام السابق، مع احتمالية ارتفاع هذا الرقم، نسبة إلى من لم تسنح لهم الفرصة بالحصول على بطاقة حماية مؤقتة (كمليك).
أسباب الإغلاق
أبو أنس تاجر سوري، مقيم في مدينة غازي عنتاب، يقول لروزنة إن بعض البضائع السورية بدأت تفقد من الأسواق بالمدينة مثل التمر الهندي وبعض أنواع التمور والألبان.
وحول أسباب فقدان تلك البضائع، يوضح أبو أنس "أن المنتجين السوريين بدؤوا بالعودة إلى سوريا، وحتى التجار من أصحاب محال الجملة الذين يوزّعون البضائع على الأسواق، نسبة كبيرة منهم أيضاً عادوا إلى البلد".
ويوضح حول الأسباب بتقديره: "العشرات من الشركات والمحال السورية على اختلافها أغلقت وانتقلت إلى سوريا خوفاً من الركود وارتفاع التكاليف التشغيلية في تركيا (...) وهناك قسم آخر يتحضّرون لإغلاق محالهم التجارية".
ذكرت صحيفة "telgraf" المحلية في غازي عنتاب، في تقرير أواخر العام الفائت، أن المطاعم والمقاهي والمحال التجارية العائدة للسوريين في حي بالسوق القديم، أعطت الحياة للاقتصاد، لكن بعد سقوط النظام، أصبح السوق مهجوراً وانخفض التسوق بشكل ملحوظ.
ويلاحظ في شوارع مدينة غازي عنتاب ازدياد عبارات "محل للتسليم" أو "للإيجار"، التي تعود غالباً لمحال بيع الملابس والمواد الغذائية ومطاعم شعبية، كانت لمستأجرين سوريين، بحسب ما رصدت "روزنة" منذ مطلع العام الجاري.
ويتابع أبو أنس شرح وجهة نظره حسب اطلاعه حول أسباب العودة: "تخّوف التجار أيضاً من عدم القدرة مستقبلاً على تصريف بضائعهم مع عودة السوريين ولا سيما في صيف العام الجاري، إذ يقولون: عندما يعود السوريون من يشتري بضاعتنا؟".
وفي مدينة غازي عنتاب حيث كان يقيم 470 ألف سوري قبل شهور، انخفض العدد اليوم إلى 379 ألفاً، ما انعكس بشكل مباشر على الأسواق والمحال التجارية التي كانت تعتمد على الزبائن السوريين.
وتعتمد المحال السورية على تصريف منتجاتها بشكل كبير على السوريين المقيمين في غازي عنتاب وعلى جزء بسيط من الأتراك، وهو ما يهدّد مستقبل مشاريعهم التجارية في ظل الحديث بين أوساط السوريين عن موجة عودة كبيرة بعد عيد الفطر وانتهاء موسم المدارس.
"التجار السوريون يعتبرون أن هناك فرصة عمل كبيرة داخل سوريا، وأن القوة في تحقيق الأرباح لمن يثبت وجوده أولاً بعد سقوط النظام"، يقول أبو أنس.
ويشارك أبو ثائر، 47 عاماً، صاحب بقالية سورية في غازي عنتاب، أبو أنس برأيه، ويقول لروزنة: طرح بضاعة جديدة في السوق كالتمر هندي مثلاً قد لا تباع مستقبلاً، سيسبب خسارة كبيرة، ولا سيما أن أعداداً كبيرة من السوريين يتحضّرون للعودة في الشهور المقبلة".
اقرأ أيضاً: الإدارة السورية الجديدة في شهرها الأول.. إليك أبرز القرارات الصادرة
الضرائب الجمركية
وعن أحد أسباب العودة إلى سوريا، يقول عامر، وهو موظف في ورشة خياطة: "القصة تكمن في كلفة الإنتاج، هنا الإنتاج مرتفع، ومعظم الورش كانت تعتمد على التصدير، الآن التصدير أصبح صعباً نظراً للكلفة الجمركية، خاصة أننا كنّا نصدّر إلى سوريا في أغلب الأحوال".
يزيد على كلفة الإنتاج والبيع، كلفة الرخص وشروط أخرى باتت صعبة على أصحاب الأعمال السوريين في تركيا، ويشير عامر: "والآن الورش بدأت تعمل في سوريا وبتكلفة أقل".
أبو نزار، صاحب مطبعة في تركيا نقل أعماله مؤخراً إلى شمالي سوريا، يقول لروزنة: "الكلفة التشغيلية في سوريا أقل، خاصة بالمناطق المخدّمة سابقاً كإدلب ومناطق الشمال، في هذه الحالة ستكون انطلاقة لنا للتصدير، مع آمال بأن تكون الضرائب مناسبة".
الشهر الفائت، أصدرت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في سوريا، نشرة رسوم جمركية موحدة، رفعت عبرها أسعار الرسوم الجمركية بنسبة وصلت إلى 300 بالمئة، ما أدى إلى زيادة كبيرة في الضرائب على البضائع المستوردة في تركيا، وفق تقارير إعلامية.
وقال مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية ، مازن علوش، لوكالة "سانا" إن النشرة تهدف إلى دعم القطاع الصناعي، وجذب الاستثمار، عبر تقديم إعفاءات للمستثمرين وأصحاب المعامل الذين غادروا البلاد بسبب ظروف الحرب.
ووفق موقع "ekonomim" التركي، إن القرار أدى إلى توقف التجارة بين البلدين، فيما واجه المصدرون والمستوردون السوريون صعوبات كبيرة في العديد من القطاعات.
"عمليات الإغلاق طبيعية"
الأكاديمي والباحث السوري عبد المنعم حلبي، المقيم في غازي عنتاب، يوضح لروزنة أن عمليات إغلاق المحال التجارية اليوم تعد أمرًا طبيعياً.
ويقول: "في الأساس، كانت العلاقة الاقتصادية بين السوريين في تركيا قوية جداً، خاصة من خلال الشبكات التي نشأت بينهم (...) السوريون كانوا يفضلون المحال السورية، والتي كانت تلبي احتياجاتهم من السلع التي كانوا يجلبونها من سوريا".
وتابع: "وبعدها بدأت مصانع سورية تقام داخل الأراضي التركية لإنتاج سلع تتناسب مع احتياجات السوق السوري، سواء من حيث الجودة أو العلامات التجارية (...) نحن الآن في مرحلة انتقالية للسوريين، وبالتالي المحال التجارية ستفقد زبائنها الأساسيين، كما ستقل طلبات هذه المحال من المصانع والمعامل المختلفة".
ويشرح أن هذه العلاقات الاقتصادية مرتبطة بوجود عدد كبير من السوريين في جنوب تركيا، الذي قد يتراجع بعد العيد وفترة الصيف.
وأكد الأكاديمي السوري أن العمل الصناعي يحتاج إلى فترة طويلة من التأسيس، حيث أن نقل المعامل وترتيب الوضع في سوريا لتأسيس الحصة الاقتصادية اللازمة يتطلب وقتاً.
ويضيف: "المعادلة نفسها تنطبق على العمل التجاري، حيث أن ذلك يحتاج إلى وقت لإعادة التأسيس، ولكننا نعتقد أن انتقال المعامل إلى سوريا أولاً، تليه المحال التجارية، هو أمر حتمي مع زيادة الأعداد التي ستعود إلى سوريا".
وفيما يخص التحديات الاقتصادية في تركيا، يشير "حلبي" إلى أن ارتفاع الإيجارات ورسوم الترخيص، والتشدد في موضوع الضرائب وأذونات العمل من قبل الحكومة التركية تعد عوامل ثانوية لإغلاق المحال التجارية، لكنها تسهم في التأثير على سير الأعمال التجارية والصناعية.
ووفقاً لبيانات "اتحاد غرف وبورصات السلع التركية" لعام 2023، بلغ عدد الشركات السورية المسجلة في تركيا منذ عام 2013 حوالي 10093، وتأتي الشركات السورية في المرتبة الأولى، وتليها السعودية ومن ثم العراق.
وانخفض عدد الشركات السورية المؤسسة في تركيا بمقدار 3 أضعاف ما بين كانون الثاني وحزيران 2024 مقارنة من نفس الفترة خلال عام 2023، بحسب تقرير لموقع "بزنس ميديا".
تخفيضات "ذهبية"
في السوق الرئيسي، وسط مدينة غازي عنتاب بما يعرف بـ"تشارشي"، يقول محمد، وهو شاب يبيع على أحد البسطات، لروزنة: "بضاعتي تصفية معامل وورش، لذلك أصحابها يبيعونها بهذه الأسعار، ورغبتهم هو تصريف هذه البضاعة، والعودة إلى سوريا للبدء من جديد بعد العيد".
على سبيل المثال، طقم لطفل بعمر 8 سنوات، كان يباع في مثل تلك الأوقات بألف ليرة تركية، أصبح اليوم على البسطات يباع بـ 350 ليرة تركية.
مع تخفيض الأسعار بسبب تصريف التجار لبضائعهم، يكسب الزبون السوري الذي ادخر القليل، لشراء ألبسة وأحذية، يحمل ما اشتراه ليعود إلى سوريا مع أولاده بلباس جديد أقله.
تقول أم أحمد لروزنة، وهي ربّة منزل: "نشتري للعيد ولموسم الشتاء القادم، هذه فرصة نكسبها، لنعود إلى سوريا على الأقل بكسوة جديدة لأولادنا (...) اشتريت لبناتي الثلاثة، ربما يكون الشتاء القادم قاسٍ في سوريا، لا نعلم، المهم أنهم لن يحتاجوا ملابس لسنتين".
ومع موسم التصفيات السورية، تتفرّغ المحال، بعضها، أصبح بنصف بضاعة، وبعضها بواجهات زجاجية، وطاولات فارغة تبدو من الخارج.
يقول أحمد، وهو صاحب محل لبيع البن والمكسّرات في غازي عنتاب لروزنة: "حان الآن موعد العودة إلى سوريا، قضيت هنا 8 سنوات كاملة، بحلاوتها ومرّها، سأعود بعد العيد لأباشر عملي في حلب، وبصراحة أنا متفائل من هذه الخطوة".
اقرأ أيضاً: من غازي عنتاب إلى حلب.. رحلة عودة مؤجلة بسبب المخاوف
تأثير إغلاق المحال التجارية السورية!
شيئاً فشيئاً تقل المحال السورية في غازي عنتاب، وهو ما يصعّب الشراء على بعض السوريين الذين مازالوا في طور التخطيط للعودة.
تقول أم بهاء، وهي سيدة منزل تعيش منذ 8 سنوات في غازي عنتاب: "جاري في الحي حيث أعيش، بقال سوري أغلق محلّه وعاد إلى سوريا، كنت معتادة على الشراء من محله، الآن مشوار الشراء أصبح أبعد".
لكن هنادي، تعمل في محل ألبسة تقول لروزنة: "سنعتاد على الوضع الجديد، وسنشتري من المحال التركية، ولو احتجنا بكل تأكيد سيبقى عدد من المحال السورية لأصحابها المجنّسين هنا، الوضع ليس صعباً، المهم أن نتبيّن الحال في سوريا، وربما في الصيف سنقرر".
أما راما، سيدة سورية تعيش في أسنيورت، تتحدث لروزنة عن أثر هذه التغيرات على حياتها اليومية: "كان جارنا في الطابق السفلي يدير دكاناً صغيرة، لكنه قرر إغلاقها والعودة إلى سوريا. عندما سألناه عن السبب، قال إنه لم يعد يرى جدوى من البقاء هنا".
تضيف راما أن غياب المحال السورية أثر على قدرتها على شراء احتياجاتها: "كنت أشتري بالدين من دكانه، أما الآن، فلا يوجد متجر سوري قريب مني، والمتاجر التركية لا تبيع بالدين، ونحن لا يتوفر معنا المال دائماً".
من جهة أخرى، تتأثر فرص العمل أيضاً بتغيرات السوق. أحمد، شاب سوري يبلغ من العمر 18 عاماً، كان يعيل أسرته المقيمة في حمص من خلال عمله في دكان سوري، لكنه اضطر لترك العمل مؤخراً بعد إغلاقه.
يقول لروزنة: "أنا لا أفكر في العودة حالياً، لا أملك مهنة أو مصدر رزق هناك. كنت أعمل هنا وأرسل جزءاً من المال لعائلتي، وأدّخر جزءاَ آخر لدراستي. أعيش مع مجموعة من الشباب في غرفة صغيرة، وأطمح لدراسة إدارة الأعمال، لكني لم أجد حتى الآن دكاناً آخر يقبل تشغيلي".
في إسطنبول أيضاً.. تراجع الأعمال وقرارات العودة
وفي مدينة إسطنبول التي تضم أكثر من 500 ألف لاجئ سوري، يواجه العديد من أصحاب المحال التجارية تراجعاً في المبيعات، مع عودة عدد متزايد من السوريين إلى بلادهم.
أبو الكرم، صاحب بقالية في منطقة اسنيورت، يصف الوضع قائلاً لروزنة: "منذ أن بدأ السوريون بالعودة، لم يعد هناك بيع كما كان من قبل. لديّ زبائن كثر رجعوا إلى سوريا، وأرى ذلك حتى في دفتر الديون، حيث يأتي إليّ كل أسبوع اثنان أو ثلاثة من الزبائن لتصفية حساباتهم، ويخبرونني أنهم عائدون، بعضهم إلى حلب، وآخرون إلى الغوطة في دمشق".
ويضيف أبو الكرم أن التراجع في الطلب دفعه إلى تقليص حجم البضائع التي يجلبها، مشيراً إلى أنه لم يعد يشتري بعض الأصناف التي كانت تباع بكثرة في السابق، كما أن العديد من زبائنه الباقين في إسطنبول أصبحوا يختصرون مشترياتهم، أو يدخرون استعداداً للعودة.
"المحل لم يعد يحقق أرباحاً وسط الضرائب المرتفعة والإيجارات، وحتى الموزعين أصبحوا يقللون من تزويدنا بالبضائع"، يقول أبو الكرم. ضارباً مثالاً بانخفاض استهلاك الخبز، حيث كان يبيع يومياً 30 صندوقاً، أما الآن فلا يبيع أكثر من 10، ومع ذلك يبقى منه لليوم التالي.
كما أن الإقبال على التسالي والمكسرات تراجع، ما دفعه الشهر الماضي إلى التخلص من كميات كبيرة من الموالح التي فسدت بسبب قلة الاستهلاك.
وتشهد المدن التركية التي كانت تحتضن أعداداً كبيرة من السوريين تغيرات جذرية في المشهد الاقتصادي، مع تزايد موجة العودة إلى سوريا.
وبقدر ما تحمل هذه التغيرات من تحديات لأصحاب المحال والتجار الذين كانوا يعتمدون على الزبائن السوريين، فإنها تعكس أيضاً تحوّلاً في موازين الحياة بين تركيا وسوريا، حيث يسعى العائدون إلى بناء مستقبل جديد في وطنهم، رغم المخاطر والظروف غير المستقرة.