تقارير وتحقيقات | 24 12 2024
جو حمّورةشهدت سوريا بعد سقوط بشار الأسد ظاهرة بارزة تمثلت في تغيير كثيرين لآرائهم ومواقفهم، وهي ظاهرة تفوق نظيرتها في لبنان. فلا تزال بيروت تضم بعض السياسيين والإعلاميين والفنانين الذين لم يتراجعوا عن دعمهم لنظام آل الأسد رغم عقود من الهيمنة والقهر. هؤلاء، كما يبدو، لم يستوعبوا الدروس من جارتهم سوريا بعد، ولم يدركوا أن السياسي الحكيم قد يختار أحياناً أن يميل مع الرياح بدلاً من الوقوف المتعنت أمامها.
وفي حين كان انكسار أنصار الأسد في لبنان عميقاً، فإن مشاعر الفرح لدى خصومهم اللبنانيين الذين واجهوا نظام الأسد لسنوات طويلة لا تقل عمقاً. من بين هؤلاء، الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي زار دمشق يوم الأحد الماضي على رأس وفد كبير من مشايخ الطائفة وقادتها، للقاء القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع.
لم يكن استقبال جنبلاط على قدر الحفاوة المعتادة التي يحظى بها المسؤولون الأتراك مثلاً، لكنه كان مقبولاً، وأثمر اللقاء نتائج مهمة. وضع جنبلاط في مقدمة أولوياته سلامة أبناء طائفته في سوريا، بينما سعى الشرع لتأمين تأييدهم لتعزيز شرعيته محلياً وإقليمياً. هذا التلاقي في المصالح جعل الاجتماع ضرورة للطرفين، وكانت نتائجه إيجابية. جنبلاط صرح بأن "سوريا ستبقى دولة تعددية بعدما انتهت من القهر والاستبداد"، فيما أكد الشرع أن "صفحة جديدة ستُفتح بين لبنان وسوريا"، متعهداً بإنهاء النفوذ السوري السلبي تجاه جارته.
لبنان يبدو الآن أمام مفترق طرق جديد في علاقته مع سوريا. إذا استقر حكم الشرع وتمسك بسياسة عدم التدخل في الشأن اللبناني، فقد يحقق لبنان مكاسب كبيرة، لكنها لن تخلو من التحديات، نظراً لتعقيد مشهده السياسي. فلبنان، هذا البلد الصغير ذو الموقع الاستراتيجي، ظل لعقود طويلة واقعاً تحت تأثير الجغرافيا السياسية لسوريا. أما الآن، فإن تخفيف هذا التأثير يمنح بيروت فرصة لتعزيز استقلالها السياسي وإعادة بناء سياساتها بعيداً عن الهيمنة السورية.
اقتصادياً، قد يفتح استقرار سوريا الباب لتعزيز التبادل التجاري بين البلدين، خاصة أن دمشق تمثل معبراً رئيسياً للبنان نحو الأسواق العربية. كما أن استقرار الأوضاع قد يخفف من أعباء اللاجئين، ما يساعد لبنان على تنظيم أموره الداخلية.
لكن تأثير التغيير السوري لن يكون موحداً على الساحة اللبنانية. القوى التي ناهضت نظام الأسد ستعتبر هذا التحوّل انتصاراً، وفرصة لتعزيز حضورها. من بين هذه القوى، جنبلاط ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، إلى جانب تيار واسع من أبناء الطائفة السنية التي غالباً ما تتفاعل سريعاً مع تطورات سوريا.
على الجانب الآخر، ستجد القوى المتحالفة مع النظام السوري السابق، كـ"حزب الله"، نفسها أمام تحديات وجودية. فالتغيير السوري يمثل بالنسبة لها خسارة مزدوجة، خاصة بعد الهزيمة التي لحقت بها في حربها مع إسرائيل، وما تبعها من قيود على تحركاتها العسكرية ووجودها جنوب لبنان نتيجة اتفاق وقف إطلاق النار المذل للحزب.
لا يمكن فهم العلاقة بين لبنان وسوريا بعيداً عن التاريخ والجغرافيا. فمنذ العهد العثماني، كان لكل حاكم في دمشق تأثير مباشر على بيروت، حيث لم ينظر أغلب الحكام السوريين إلى لبنان كدولة تستحق أي استقلال فعلي. ورغم حدود "سايكس-بيكو" التي فصلت البلدين، بقي التداخل الثقافي والاجتماعي قائماً بقوة، ومؤثراً في طبيعة العلاقات بينهما.
حتى لو أعلن الشرع سياسة الحياد تجاه لبنان، فإن تأثير سوريا سيظل قائماً بشكل غير مباشر. استقرارها أو اضطرابها ينعكس فوراً على لبنان. كما أن القوى الدولية والإقليمية المتصارعة على النفوذ في سوريا لن تغض الطرف عن لبنان، الذي يبقى امتداداً لهذا الصراع، وعرضة للتأثر بأي تغيير يطرأ في دمشق.
وبالرغم من الآمال الكبيرة في فتح صفحة جديدة بين لبنان وسوريا، يبقى الطريق مليئاً بالتحديات. فالتحولات السياسية الكبرى عادة ما تأتي محمّلة بتبعات معقدة، خاصة في بلدين تجمعهما الجغرافيا والتاريخ والمصالح المتداخلة.
على الصعيد الداخلي اللبناني، ستواجه القوى السياسية ضغوطاً متزايدة لإعادة ترتيب تحالفاتها ورؤاها في ظل الواقع الجديد. القوى التي كانت تعتمد على الدعم السوري وتعتاش منه، قد تجد نفسها مضطرة لإعادة تعريف دورها السياسي. من يدري، ربما نرى أمين عام "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم في دمشق، لا زائراً لمقام السيدة زينب إنما للقصر الرئاسي.
أما على مستوى العلاقات الإقليمية، فإن أي تقارب بين لبنان وسوريا سيخضع لرؤية الأطراف الدولية المؤثرة في المنطقة. فالولايات المتحدة ودول الخليج من جهة، وإيران وروسيا من جهة أخرى، ستراقب عن كثب هذا التقارب، وستحاول توجيهه بما يتناسب مع مصالحها الاستراتيجية.
وفي ظل هذه المعادلة، يبقى العامل الشعبي في كلا البلدين محورياً. فالشعبان اللبناني والسوري يتوقان إلى مرحلة من الاستقرار والتعاون، بعد سنوات طويلة من الحروب والاضطرابات والعدائية. إذا أُحسن استثمار هذه الرغبة الشعبية، فإنها قد تصبح رافعة لمرحلة جديدة من الشراكة البناءة، تتجاوز الأحقاد والخصومات القديمة وكل مشاكلها السابقة.
التحدي الأكبر يكمن في بناء الثقة بين الطرفين، وإعادة صياغة العلاقة بما يحفظ سيادة كل دولة، مع تعزيز المصالح المشتركة. إذا نجحت القيادات السياسية في لبنان وسوريا في تبني هذه الرؤية، فإن البلدين قد يكونان على أعتاب حقبة جديدة من التعاون المثمر.
لكن يبقى السؤال مفتوحاً: هل يستطيع النظام السوري الجديد تجاوز إرث الماضي وفتح صفحة شفافة وجديدة مع لبنان، أم أن أشباح التاريخ ستظل تحوم فوق هذه العلاقة، مقيّدة أي محاولة للتقدم؟ الوقت وحده كفيل بالإجابة، لكنه في الوقت نفسه يفرض على الجميع التحرك بحذر وحكمة لضمان مستقبل أكثر إشراقاً لشعبين ذاقا معاً كل أنواع الظلم من حكم آل الأسد.