تقارير | 25 05 2020
تتجه الأنظار في بداية أي حراك ثوري إلى المثقف وما سيقدمه للثورة في بلده، وتتحد هذه الأنظار نحو سيل الاتهامات التي تطال المثقف في الوقت نفسه، كون مهمته حساسة للغاية، في وقت يكون فيه للثقافة دور محوري في إشعال فتيل الثورات العالمية. ولعل الجميع يعرف مجريات وديناميكيات الثورة الفرنسية، مثلاً، ببُعدها الثقافي ودور الفلاسفة والمثقفين في الوقوف إلى جانبها والتنظير لها، بل وقيادتها..
ويدرك المتابع جيداً دور الثقافة في إحداث التغير المجتمعي والفكري، بما في ذلك تغيير الوعي، تمهيداً إلى تغيير في السلوك، فالعميلة تبدأ من التغيير في التفكير ثم الاتجاه فالسلوك، وهذه العملية التراكمية تستلزم بطبيعة الحالة آليات ثقافية تُعيد للثورة بهاءها وللمثقفين دورهم المجتمعي الكبير، أما عندما يعاني المجتمع أساساً من خلل في نظرته إلى المثقف، فحتى بعد اندلاع الثورة لن تتغير النظرة إلى المثقف كـ "كائن" بعيد عن الواقع وقريب من التنظير.
وفي الوقت نفسه، يطالب المجتمع المثقفين بأخذ دورهم في بلدانهم، لكن كيف ينطبق الحال على سوريا؟
كان حال المثقفين في سوريا، إجمالاً، مائلاً إلى عدم أخذهم لفرصهم الحقيقية، رغم وجود وسائل ثقافية وإعلامية توصل فكر الفئة الأولى القريبة من السلطة إلى المجتمع، لكن كانت فئة أخرى من المثقفين غير معروفة ولا تأخذ حقها من التعبير عن أفكارها. وما بين الفكريْن، كان ثمة فكر واحد فقط مسيطر على مجريات الأحداث، بل وحتى الفئة الأخرى كانت تحاول التودد إلى السلطة، في زمن لم يكن فيه بالإمكان المناداة بإسقاط رأس النظام بشار الأسد..
ومن هنا فقط، تسرب الظلم إلى مصير الفئة الأكثر تحمّلاً لظروف الحياة الصعبة. وبين التنقل من مركز ثقافي إلى آخر، كان مثقف هذه الفئة يحمل حقيبته متنقلاً أيضاً بين الوزارات والهيئات، محاولاً الحصول على حجز موعد لندوة يلقيها أو كتاب يناقشه أو مخطوط ما يطبعه، لكن كان يصطدم بالروتين الحكومي الذي لم يرحم حتى مؤيدي النظام في ذلك الوقت.
ومن هذه المتتالية والمعادلة البسيطة، تفرض الثورة السورية استحقاقاتها على مثقفيها، ممن وقفوا بجانبها، هؤلاء الذين تنافروا الآن في مواقفهم أيضاً من الثورة، ولاسيما في كيفية الحفاظ على بقاء الثورة على حالها والعودة بها إلى الأيام الأولى، التي لم يكن فيها وجود للمتشددين والمتطرفين "المتأسلمين"، ممن ركبوا هودج الثورة، ما فرض تأثيره على فئة المثقفين التي لا ترضى بشكل معين من الدولة السورية، وأحالوا مفهوم سوريا كدولة إلى أنها حضارة تمتد إلى آلاف السنين ولا تحتمل هذا النوع من التخلف.
هذه الاستحقاقات تفرض على المثقفين السوريين أن يراجعوا حساباتهم وما قدموا للثورة، تلك التي تعيش تناقضاً حاداً مع مثقفي السلطة من جهة، ومثقفي المعارضة "التي لا توافقهم في كثير من القضايا السالفة الذكر" من جهة أخرى.
وفي ضفة أخرى من الحديث، ليس مطلوباً منا أن نحمّل المثقف وكأنه قائد رأي للثورة أو أنه المعبر الوحيد عن الخلاص، فلربما يقتصر دوره على النقد في الكثير من الأحيان، لكنه كأي مكون آخر من المجتمع، كوجود، لا ينفصل دوره عن دور غيره من أخيه في الحياة. ولعلها من الحالات القليلة جداً، إن لم تكن النادرة، أن يكون للثورة السورية مثقف غيّر من رأي المجتمع، فقد يكون له الدور في التنبّه إلى قضية ما دون أخرى، طبعاً هذا الحديث يردده مفكرون ومثقفون سوريون كبار.
وهذا كله لا يجعلنا نتناسى أو نتجاهل ما قدمه المثقف السوري، وما يقدمه، ابتداءً من تفكيره وانتهاءً بموته.
-------------------------------------------------------------------------
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة