تقارير | 25 05 2020
شنت "جبهة النصرة" -هيئة تحرير الشام وفق آخر التسميات- هجوماً شديداً على الفصائل التي شاركت في مؤتمر "أستانه"، واعتبرته مؤامرة، كما اعتبرت كل من يذهب اليه متآمراً او خائناً، كان ذلك قبل المؤتمر الذي عُقد في الثلث الاخير من كانون الثاني الماضي، والذي اعقبته "الجبهة - الهيئة" بسلسلة من التصعيد والمداهمة والهجوم على بعض الفصائل التي اعتبرتها "الجبهة - الهيئة" مسؤولة عن الضربات التي تعرضت لها من الطيران الروسي وطيران التحالف خلال النصف الاول من كانون الثاني.
لم تقدم "الجبهة – الهيئة" اي قرائن او ادلة على اتهاماتها، ما يجعل تلك الاتهامات تطبيقاً مثالياً على استخدام نظرية المؤامرة.
يرتبط استخدام نظرية المؤامرة بالنظم الاستبدادية والشعوب التي تخضع لها عادةً، ففي تعاملها مع الازمات الناتجة عن الفساد والظلم، تجد تلك النظم نفسها امام الاعتراف بالخطأ، بما يعنيه من قبول للمحاسبة، او الهروب الى نظرية المؤامرة. هذا ما حصل مع النظام السوري إبان قيام المظاهرات عام 2011، اختار النظام عدم الاعتراف بالمشكلة، واتهم المتظاهرين بأنهم مجموعات قليلة من "المندسين" الخونة الذين كانوا يقبضون /500/ ليرة سورية عن كل مظاهرة (ملفوفة بسندويشة فلافل يتم تقديمها للمتظاهر خلال قيامه بالمهمة)، لكن المظاهرات اتسعت وشارك بها عشرات الآلاف، فانتقل النظام الى اتهام قطر ببناء مجسمات "ماكيتات" تشابه ساحات المظاهرات، ثم تجميع الناس وتصويرهم بها على انهم متظاهرون في الداخل السوري، وهو اتهام غريب يعطي قطر قدرةً لم ولن تمتلكها اي دولة في العالم على المدى المنظور.
ما سبق يبدو مفهوماً من نظام استبدادي للهروب من مواجهة الاخطاء وتحويل المعارضين الى متآمرين، وحشد الموالين لمساندته في محنته بمواجهة "المؤامرة العالمية"، ولكن ما الذي يدعو "النصرة – الهيئة" لاستخدام سلاح المستبد؟!.
وفقاً للدراسة القيّمة التي اجراها الدكتور "محمد عبدالسلام" لأنماط التفكير التآمري في المنطقة العربية، ونشرها مركز الاهرام للدراسات، فإن ما فعلته "النصرة" يندرج تحت نمط من انماط نظرية المؤامرة يسمى "نمط الاستهداف" ويمكن تلخيصه بتعبير عامّي: "كللون علينا"، نحن مستهدفون، القوى العالمية تتربص بنا وهي لا تفكر الا بالقضاء على الاسلام والمسلمين، والحقيقة ان هذا النمط من التفكير يواءم المرجعية الفكرية للسلفية الجهادية التي تعتبر ان هناك معسكرين او دارين في العالم هما: الآخرون ونحن، او "دار الايمان ودار الكفر"، كما انه يتوافق مع الفكر السابق الذي لا يقبل التساوم او التعاون، ولا يؤمن الا بمنطق "صراع الوجود" عوضاً عن "تفاعل المصالح".
يتضح ذلك من بيان "النصرة" الذي يعتبر المسار السياسي الذي واكب الثورة "سلسلة من المؤامرات المتتابعة"، وخطورة العبارة السابقة هي وسم الآخر كعدو ازلي شيطاني، دون دراسة دوافعه ومعاييره ومصالحه، ما يعني التنكر لأي حلول سلمية او سياسية غير عنيفة ترتبط بمصالح مشتركة، وحلول وسط، وتوافقات بين الاطراف المتنازعة كما هو الحال في 90% من حجم العلاقات الدولية الحالية.
لا أحد كان يرغب بمؤتمر "أستانه" تحت رعاية دولة تحتل سوريا مثل روسيا، ولا اعتقد ان احداً من اعضاء وفد الفصائل اعتقد ولو للحظة ان روسيا حريصة علينا فعلاً، ولكن في منطق الامور هناك حلين لا ثالث لهما: الاول ان تكون قوياً فتجبر الآخر على احترام رؤيتك -على الاقل-، حصل هذا ايام الثورة الايرانية، حين دخل مستشار الرئيس الامريكي الاسبق "جيمي كارتر" ليخبره ان الثورة الايرانية تنتصر "انهم ينتصرون" فأجابه الرئيس: "افتحوا قنوات اتصال مع الثورة الايرانية"... للأسف، لم تستطع الثورة السورية وفصائلها ان تحقق قوة تستند اليها في اي مفاوضات، فكانت كارثة حلب وما سبقها وتلاها وأدّى الى الحل الثاني، اي ان تكون الطرف الاضعف الذي تضطره الظروف الى مفاوضات حفظ ماء الوجه.
تعلم "النصرة - الهيئة" ان اي مفاوضات من اي شكل تعني ضرورة التخلي عن فكرها وحلولها التي تعتمد افناء الآخر، والقضاء على دار الكفر، ولذلك فهي امام حلين: اجراء مراجعات لمنظومتها الفكرية التي تستحضر الفقه الاسلامي دون وضعه في سياقه التاريخي، وتغيير فكرة "كللون علينا" لتصبح "كيف ممكن ان يكونوا كللون مو علينا" -وتبدو تلك المراجعات مستحيلة بالطبع-، ما يعني الانتقال الى الحل الثاني باعتماد نظرية المؤامرة لتخوين كل من يذهب الى المفاوضات، كمقدمة للقضاء عليه والسيطرة على ما تصل اليه يدها من الشمال السوري بانتظار المعركة الفاصلة مع دار الكفر. واعتقد انها اتخذت قرارها وفق هذه الرؤية.
يجب ان تعلم كل الفصائل ان "هيئة تحرير الشام" تدق طبول الحرب التي لو حصلت، فإن نتائجها الكارثية قد تجعل حتى "أستانه" اُمنيةً بعيدة المنال، (وقد يكون ذلك هو السبب الحقيقي لتجميع الكل في ادلب)، بنفس الوقت فإن اي حل من قبيل "تبويس الشوارب" سيكون ايضاً مجرد تأخير للمحتوم..
يبدو الضوء الوحيد لهذا النفق، هو ان تسارع الفصائل الى خطوات عملية تُكسبها جبهتها الداخلية وحاضنتها الشعبية، بشكل يُحرج النصرة واخواتها ويُفقدها شرعيتها الدينية والثورية، ويبطل محاولاتها لكسب تعاطف مقاتليها والطيبين ممن حولها باستخدام نظرية المؤامرة.
ويجب ان تعلم هيئات وشخصيات المعارضة انها إن لم تسارع الى التعاون مع الفصائل في الداخل الشمالي، وتتورط معها على الارض، وتتخلى عن اعطاء المواعظ والتنظير بمفعول رجعي من استنبول وقطر وغيرهما، فإن "أستانه 1" قد يليها "ايران 1" و "قم 2".
اخيراً، فإن نظرية المؤامرة التي تتّبعها النصرة كما النظام، خطيرة جداً، وقد تكون لها آثار عميقة ما لم يتم التنبيه لها وكشف اساليبها، وهذا يحتاج لوقفة اخرى.