تقارير وتحقيقات | 5 05 2025

خلقت أزمة حبس السيولة التي طبقتها حكومة محمد البشير المؤقتة بعد سقوط النظام السابق، أزمات اقتصادية ومعيشية لكثير من السوريين منها، عدم حصول الموظف على راتبه كما كان يحدث قبل سقوط النظام، وكذلك فقدان آخرين (تجار) قدرتهم على سحب أموالهم من البنوك أو تحويلها.
وعليه، ظهرت شبكة سماسرة ووسطاء في السوق السوداء تعمل على تسهيل حصول أصحاب الحسابات البنكية على أموالهم من البنوك لقاء هوامش ربح متفاوتة بسبب تفاوت سعر تصريف الدولار مقابل الليرة، واضطرار بعض من مَن يملكون أموال في البنوك لرفع سعر صرف الليرة بنسبة تفوق سعره في السوق السوداء.
ولا يزال يعاني السوريين من تداعيات حبس السيولة حتى بعد انتهاء صلاحية الحكومة المؤقتة وتعيين حكومة انتقالية جديدة برئاسة رئيس سوريا في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، ما خلق سوقًا موازية للدولار مع هوامش ربح للوسطاء والسماسرة وسط غياب رؤية واضحة للحكومة في معالجة المشكلة.
سحب الأموال بـ "خسارة"
حصلت "روزنة" على شهادات تكشف كيف يلجأ أصحاب الحسابات البنكية في البنوك السورية إلى شراء الدولار بأسعار تفوق سعر السوق السوداء بقصد سحب أموالهم من البنوك من خلال عمليات التحويل بين الحسابات البنكية سواء لدفع رسوم جواز سفر أو فواتير وغير ذلك.
ويتعرض أصحاب الحسابات البنكية للخسارة بقصد سحب أموالهم، إذ يدفعون أسعار أقل من التكلفة لقاء تسديد ثمن خدمات مثل استخراج جوازات السفر أو تعبئة الرصيد بأسعار متفاوتة، وكل ذلك يجري في ظل غياب آليات مالية شفافة وفعالة.
ويوضح سمسار يعمل كوسيط بين أصحاب الحسابات البنكية والزبائن الآلية: "عندما يفشل التاجر في سحب أمواله الموجودة في المصارف نتيجة سياسات الحكومة المقيدة لعمليات السحب اليومي، يلجأ إلى عمليات التحويل بين الحسابات والبنوك وتطبيقات الدفع الالكتروني، فيدفع للزبون رسوم جواز السفر عن طريق الحساب البنكي، ويأخذ من الزبون كاش حصراً".
وكان المصرف العقاري قد رفع سقف السحب لبطاقة الصراف الآلي عن طريق أجهزة (ATM) و (POS) إلى مليون و 800 ألف ليرة سورية أسبوعياً، حسب السيولة المتاحة لدى الفرع، وكذلك رفع المصرف التجاري السوري سقف السحوبات عبر صرافاته الآلية إلى 500 ألف ليرة سورية أسبوعياً.
لكن، ثلاثة مودعين أكدوا لـ "روزنة" أنّ هذا القرار لم ينفذ بذريعة أنه "لا يوجد سيولة"، عدا عن ساعات الانتظار الطويلة وتعطل الصرافات الآلية.
سوق موازي بهوامش ربح
يقول ابراهيم 40 عاماً مدرّس لغة إنجليزية، مقيم في دمشق، إنّ "الكثير من الأشخاص الذين لديهم أموال في البنوك والمصارف يحتاجون لسنوات لسحب أموالهم بقصد تغطية مصاريفهم، لذا يلجأ بعضهم لشراء الدولار من الناس بأسعار أعلى من السوق السوداء".
ويشرح مدرس اللغة الانجليزية أن أصحاب الحسابات البنكية يصرّفون الدولار بـ 13500 ليرة وأحياناً 14000، في وقت كان سعر الدولار مقابل الليرة حوالي 10 آلاف ليرة سورية.
ويضيف في حديثه لـ "روزنة" بأنّ أي شخص يمتلك حساب بنكي ولديه دولار يريد تصريفه بسعر مرتفع يذهب إلى هؤلاء السماسرة ليتم التصريف بسعر زائد عن سعر السوق السوداء مقابل حصول صاحب الحساب البنكي على العملة الصعبة باليد مقابل حوالته البنكية المرسلة للمستفيد بالليرة السورية.
وأكّد ابراهيم أنّ هنالك سوقاً بدأ يتشكل في دمشق وربما في محافظات أخرى، إذ أصبح الكثير من الأشخاص العاديين الذين ليس لديهم أية أموال محبوسة في المصارف يشترون الدولار من السوق بسعر أعلى بـ 500 أو 1000 ليرة من سعر السوق السوداء ثم يتم بيعه لوسطاء التجار ورجال الأعمال بسعر 14000 ليرة سورية.
استخراج جواز السفر بأقل من تكلفته
يقول أحمد (24عاماً): "أردت استخراج جواز السفر في الأسبوع الماضي، وبحثتُ بين السماسرة للحجز على المنصة لاستصدار الجواز بأقل قدر ممكن من التكاليف"، مشيراً في حديثه لـ "روزنة" إلى أنه لاحظ بأن هناك تفاوت كبير بين السماسرة، إذ قدم أحدهم خدماته مقابل مليونين ومئة ألف ليرة سورية، وآخر مليون وثمانمئة ألف للجواز الفوري.
وقد أثار هذا الفارق الكبير تساؤلات أحمد، الذي قال له سمسار آخر بإنه يستطيع استخراج جواز سفر بأقل من التكلفة، والسبب هو الحاجة الملحة لسحب المال من البنوك من قبل التجار.
وبحسب رصد "روزنة" هنالك من استصدر جواز السفر الفوري بكلفة مليون ونصف المليون ليرة، علماً أنّ إدارة الهجرة والجوازات في وزارة الداخلية قد حددت تكلفته عند مليوني ليرة سورية، على أن الفارق يكون قد دُفع من قبل تاجر ما بقصد سحب ماله من البنك.
وحدات المغتربين
لا يقتصر ما يحدث من عمليات مضاربة على الليرة عبر التحويلات البنكية على الدولار وجوازات السفر، إنما تعداها إلى أمور أخرى أكثر بساطة ويستخدمها جميع السوريين من كافة الشرائح الاجتماعية، كما يقول معين وهو مهندس مدني.
ويضيف الرجل الثلاثيني لـ"روزنة" "يوجد الكثير من العروضات على تعبئة الرصيد، "شحنت الشريحة بخمسين ألف وحدة مقابل خمسين ألف ليرة فقط، علماً أنهم يأخذون عشرة بالمئة عمولة".
أبعد من ذلك، يقول سليم (55 عاماً)، بإن ابنه المغترب في ألمانيا حوّل له وحدات على هاتفه من هناك، وقد أرسل له 450 ألف وحدة بسعر 25 يورو فقط، وهو "سعر منخفض جداً"، وفق قوله.
علماً، أنّ 25 يورو تعادل 300 ألف ليرة سورية، وهي تشتري للمستخدم 287 ألف وحدة في أحسن الأحوال بحسب تطبيق أقرب إليك المعتمد من قبل شركة سيريتل، بمعنى آخر فإنّ السعر الرسمي لكل 100 ألف وحدة هو 8.7 يورو، أما عبر الوسطاء فهو 5.5 يورو، أي بفارق 37%.
وتقدم المنصات التي تعمل منذ سنوات، خدمة تعبئة الرصيد من المغتربين إلى ذويهم في الداخل السوري مقابل أسعار أعلى بكثير، مثل 40 ألف وحدة مقابل 14.5 دولار، وهي باهظة الثمن مقارنة بعروض الوسطاء الحاليين.
دفع الفواتير
من حهةٍ أخرى، أكدت رنا (37 عاماً) أنها دفعت العديد من الفواتير بلغ مجموعها 110 ألف ليرة سورية، مقابل 100 ألف ليرة أعطتها للوسيط، وقد استلمت منه وصل الدفع، مضيفة: "كان ينبغي أن أعطيه مبلغاً يفوق قيمة الفواتير كما العادة، لكنه فاجأني بطلب مبلغ أقل وأخبرني أنّ هنالك عروض أفضل كلما كانت قيمة الفواتير أعلى".
وتابعت: "لا تقبل معظم المولات والمحال التجارية أن تدفع لها ثمن المشتريات عبر حوالة من حسابك البنكي، لكنها ترحب بك حين ترغب بدفع فواتيرك الكترونياً من خلالها".
وكذلك، تتيح الحسابات البنكية في سوريا شحن رصيد خطوط "سيريتل" و"إم تي إن" مباشرةً، وسداد فواتير الخدمات عبر بوابة الدفع الإلكتروني.
وبحسب رصد "روزنة"، تبين أن العديد من المغتربين يلجؤون لتحويل رصيد إلى ذويهم في الداخل بهذه الطريقة خصوصاً في الأوضاع الأمنية الصعبة وفي حال كان ذويهم مسنين أو لديهم وضع صحي.
ما الحل؟
حول تأثير تلك الأساليب على الاقتصاد، فهي "سلبية بامتياز" كما يؤكد الخبير الاقتصادي زياد عربش، ويشرح في حديثه لـ"روزنة" "قبل سقوط النظام كان هدف كبح السيولة هو الاستفادة من الفرق بين السعرين الرسمي والموازي بحدود 25% لصالح رأس السلطة وزبانيته، إذ كان السوريون يستلمون حوالة بسعر عشرة آلاف ليرة للدولار، مقابل 15000 في السوق السوداء".
بعد السقوط ونتيجة تدفق السلع الأجنبية والدولار من المغتربين والتحويلات وعودة شرائح واسعة من المغتربين والمهجرين واللاجئين نشط سوق التبادل التجاري وارتفعت قيمة الليرة مقابل الدولار.
ويستدرك عربش قائلاً: "لكن هذه السياسة كانت تستهدف كبح التضخم وارتفاع الأسعار ومن حيث المبدأ كان يجب استخدامها لفترة محددة وليس لتاريخه، ما انعكس خللاً في السياسات الاقتصادية، وبالتالي لم يعد مجدياً الاستمرار بها ولا يمكن تبريرها بعدم توفر الأوراق المطبوعة أو العقوبات".
وعن المقترحات التي يمكن أن تخفف الآثار السلبية لحبس السيولة، يوضح عربش أنه يجب استعجال كافة مكونات التحول الرقمي والدفع الالكتروني، وشفافية عمل المصارف ومكاتب الصرافة والحوالات، ووضع خطة اقتصادية بعيداً عن الأمنيات وإنما باستخدام مؤشرات قابلة للتنفيذ.
يمر الاقتصاد السوري بحالة شلل نتيجة توقف أغلب المصانع والمعامل وتوقف الاستيراد، إلى جانب تأكيد خبراء اقتصاديين بأن تحسن الليرة أمام الدولار مرده ليس قوة الاقتصاد وتحسن الوضع الاقتصادي، وإنما "العامل النفسي" المسيطر على سعر صرف الليرة.