تقارير وتحقيقات | 24 04 2025

في ظهيرة 23 نيسان، وبينما كان أهالي مدينة إسطنبول يمارسون حياتهم اليومية المعتادة، اهتزت الأرض تحت أقدامهم، واهتزت قلوب أشخاص لم تلتئم جراحهم بعد من زلزال 6 شباط الكارثي عام 2023.
زلزال بلغت قوته 6.2 درجات على مقياس ريختر، ضرب أمس الأربعاء، قبالة سواحل سيليفري شمال ولاية إسطنبول، لمدة 13 ثانية، شعر به سكان مناطق تبعد حتى 300 كيلومتر عن مركزه، بحسب بيان لإدارة الكوارث والطوارئ التركية "آفاد".
ركض وصراخ وخوف
ريما، وهي أم سورية في الأربعين من عمرها، حين اهتزت الأرض تحت أقدامها في إسطنبول، استذكرت زلزالاً عاشته قبل عامين في ولاية غازي عنتاب.
"رجعنا نركض، مثل أول مرة. نفس الصراخ، نفس الخوف، نفس العيون المليئة بالرعب،" تقول ريما لروزنة وكأن الزمن يعيد نفسه، لكن هذه المرة بثقل مضاعف.
وقبل عامين أصاب زلزال مدمّرجنوبي تركيا وشمالي سوريا، مركزه قهرمان مرعش بلغت درجته 7.7 ريختر، أعقبه زلزال آخر بعد ساعات بقوة 7.6 درجات، ومئات الهزات الارتدادية العنيفة. وشملت أضراره 11 ولاية تركية، أودى بحياة أكثر من 53 ألف وإصابة أكثر من 107 آلاف آخرين، وفق وكالة "الأناضول".
اقرأ أيضاً: زلزال يضرب اسطنبول بقوة 6.2 درجات.. الشوارع مكتظة و"آفاد" تنشر توصيات
ذعر 13 ثانية يعيد شريط الكارثة
بعيون خائفة لم تتمالك دموعها، تروي ريما، وهي أم لأربعة أطفال، كيف عادت الكوابيس القديمة لتطرق أبوابهم:
"كنا جالسين في البيت، أولادي يأكلون وأنا أعدّ الشاي، فجأة اهتز كل شيء، نظرت إلى السقف، إلى النوافذ، 13 ثانية أعادتني إلى هناك مجدداً، قبل عامين في 6 شباط حيث الرعب والدمار والوفيات. أمسكت أولادي وصرخت: انزلوا! بسرعة! لم أفكر، فقط ركضنا".
تعيش ريما في بناء برجي شاهق بمدينة إسطنبول منذ انتقالها من غازي عنتاب بعد الزلزال السابق. تحاول منذ عامين بناء حياة جديدة مع عائلتها، لكن ما حدث مجدداً جعلها تشعر أن الأمان الذي حاولت الإمساك به، هشّ كالزجاج.
زوج ريما، الذي كان يملك مشغل خياطة صغير، استطاع بصعوبة تأمين مكان عمل جديد في إسطنبول بعد أن نقلوا قيودهم إليها قبل عامين بصعوبة بالغة ومعاملات شاقة يطول شرحها.
لكن الأمان بقي هشاً. مساء أمس رفضت ريما العودة إلى شقتها في الطابق الـ 12 ، فباتت مع أولادها في حديقة عامة قريبة، بين عشرات الأسر السورية والتركية، تحت الأشجار، على بطانيات خفيفة لا تقي من البرد.
تقول ريما: "لا أستطيع العودة مع أولادي إلى منزلنا الشاهق وأقول لهم ناموا. كيف؟ هم ما زالوا يبكون، يرتجفون، يظنون أن كل شيء سيسقط فوقهم؟".
في تلك الليلة الباردة، حين تحوّلت حديقة "يشيل وادي" في منطقة أسنيورت بولاية إسطنبول إلى مأوى مؤقت للهاربين من الطوابق العالية والأبنية والخوف العالق في جدران الذاكرة، لم تكن ريما وحدها هناك. إلى جانبها، عشرات العائلات السورية والتركية افترشت العشب، تحمل ذعرها وأطفالها وأغطية خفيفة لا تقي من برد الليل.
وبات كثيرون في أماكن مختلفة، فهناك من افترش مقاعد سياراتهم بحثاً عن مأوى مؤقت، بينما عاد بعضهم إلى منازلهم بخوف ثقيل، وتوجّه آخرون إلى المساجد، يلوذون بجدرانها طلباً للسكينة.
وحتى شهر آذار الفائت، بلغ عدد اللاجئين السوريين تحت الحماية المؤقتة في تركيا، 2 مليون و801 ألف شخص، بينهم 500 ألف شخص في ولاية إسطنبول.
قد يهمك: "آفاد" تدعو للهدوء بعد زلزال إسطنبول.. لا خسائر بشرية والهزات متوقعة
"أنا مش جمعية... بس ما قدرت أكمّل يومي"
وفي الزاوية الأخرى من ذات الحديقة كان عبد الله، شاب سوري يبلغ من العمر 28 عاماً، يمشي بين العائلات حاملاً بين يديه فطائر دافئة، يوزّعها على الأطفال والأمهات المختبئين تحت الأشجار دون أن يسأل من هم أو ماذا فقدوا.
"لم أحسب عدد الفطائر وكم شخصاً يطعمون، رأيت الناس وهي تنزل بهرع إلى الحديقة من منازلها، ولا شيء معهم، سوى لباسهم، حتى المياه لم تكن معهم" يقول عبد الله، الذي يعمل في فرن شعبي ويعرف تماماً معنى العجز حين يطرق الخوف الأبواب.
لم يعش عبد الله زلزال 6 شباط، لكن صداه وصل إليه من أصدقاء وأقرباء فقدوا أحبّاءهم تحت الركام في هاتاي وغازي عنتاب جنوبي تركيا.
في تلك الليلة، لم يحتمل أن يكمل يومه كالمعتاد، فاقتطع جزءاً من راتبه البسيط، واستأذن صاحب الفرن ليخبز كمية من الفطائر بمساعدته، ثم وزّعها بمساعدة شباب من الحيّ على عدد العائلات مجاناً.
يقول لروزنة: "أنا لست جمعية خيرية ولا مؤسسة، لكني لم أستطع إكمال يومي وكأن شيئاً لم يحدث، وبخاصة عندما شاهدت أطفالاً يبكون في البرد، مأساتنا وهمنا واحد".
على بُعد خطوات من ريما وأطفالها، كان عبد الله يربّت على خوفهم بصمت، بفطيرة دافئة، بابتسامة خجولة، دون أن يطلب شيئاً سوى أن تمرّ هذه الليلة بسلام.