تقارير وتحقيقات | 15 04 2025

في إحدى مدارس مدينة منبج شرقي حلب، تصطف المقاعد الخشبية بانتظام كما لو أنها تنتظر طلاباً لن يعودوا. السبورة خضراء داكنة، نظيفة بشكل مؤلم، وكأن لا أحد كتب عليها منذ أيام.
في الصف الرابع، خمسة طلاب فقط من أصل تسعة وثلاثين، يتوزعون في إحدى الغرف بصمت، يرفعون رؤوسهم بين الحين والآخر نحو الباب، ربما بانتظار زملاء لن يأتوا.
شهدت مدينة منبج وريفها موجة تسرّب طلابي كبير، بدأت بعد خروج "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) أواخر العام الفائت، تاركة خلفها أنفاقاً، وألغاماً، وخوفاً ظلّ معلقاً في هواء المدينة حتى اليوم، حسب شهادات الأهالي ومعلمين.
لكن الخوف لم يكن العامل الوحيد الذي أبعد الأطفال عن مقاعدهم الدراسية. فقدان الثقة وفصل عشرات المعلمين من وظائفهم دون سابق إنذار من مديرية التربية التابعة للإدارة الجديدة، وفق شهادات معلمين لروزنة، جعلا كثيراً من الأهالي يترددون في إرسال أبنائهم.
ظروف متداخلة، ومتغيرة، ربما لا تشبه ما مرت به مدينة سورية أخرى، جعلت من التعليم في منبج مهمة ثقيلة. لم ينطلق العام الدراسي لبعد شهر ونصف العام الفائت، حين أضرب معظم المعلمين والطلاب احتجاجاً على فرض مناهج جديدة من قبل "قسد".
منبج: إضراب طويل ينتصر على منهاج "الإدارة الذاتية" في المدارس
أسباب متداخلة للتسرّب!
بعد سيطرة "الجيش الوطني السوري" (المنضوي حالياً ضمن وزارة الدفاع السورية) على مدينة منبج أواخر العام الفائت إثر معارك عنيفة مع "قسد" ضمن معركة "فجر الحرية"، لم يكن الوضع الأمني بعد مستتباً، وهو ما دفع إلى انقطاع الطلاب عن التعليم في الفترة الأولى.
ثلاثة معلمين في منبج أكدوا لروزنة تسرب أعداد كبيرة من الطلاب عن مدارس منبج وريفها. البعض القليل منهم يتابعون تعليمهم بشكل خاص إما في مدارس خاصة أوعبر دروس منزلية.
يقول أبو أحمد، أحد معلمي المدينة: "في بعض المدارس، وصلت نسبة التسرب إلى 75 بالمئة، وأحياناً أكثر. في شعبة صفية كان فيها 39 طالباً، لم يتبق سوى خمسة فقط".
ويتابع: "هناك صفوف تضم 10 طلاب، وأفضلها لا يتجاوز عدد طلابه 20 من أصل 45"، مضيفاً: "في البداية كانت المشكلة أمنية بسبب التفجيرات والمفخخات، ثم جاءت التغييرات الإدارية التي أدت إلى فصل عشرات المعلمين، مما زاد من تعقيد المشهد التعليمي".
يشير أبو أحمد إلى أن بعض الطلاب عادوا إلى المدرسة ولم يجدوا معلميهم أو حتى من يحل مكانهم، ما دفع الكثيرين إلى فقدان الأمل بمتابعة الدراسة.
أما في ريف منبج، فالوضع لا يقل سوءاً، إذ توقف عدد من المعلمين عن الذهاب إلى مدارسهم بسبب ارتفاع تكاليف النقل، في ظل انقطاع الرواتب لأكثر من أربعة أشهر.
ومع استلام الإدارة السورية الجديدة للسلطة في سوريا، شهد موظفو القطاع العام أزمة في الرواتب، بعد سقوط النظام السابق وانهيار الوضع الاقتصادي السوري.
ومع مطلع العام الجاري بدأت مديرية التربية في منبج بفصل عشرات المعلمين من وظائفهم، بشكل تعسفي، وفق شهادات معلمين لروزنة، فيما قالت مديرية التربية إنه "استبعاد" وليس فصل، ما أثار غضب من شملهم القرار.
وجاء ذلك في ظل اتفاق وصف بـ"التاريخي" بين رئيس سوريا في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع وقائد "قوات سوريا الديمقراطية" مظلوم عبدي، الذي نص في بنده الرابع على "دمج المؤسسات المدنية" في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة الجديدة.
اقتصاد العائلة المنهك
تسرّب الطلاب لم يكن فقط نتيجة انهيار الثقة، بل أيضاً نتيجة انهيار الوارد المالي للعائلات، إذ يعاني أكثر من 90 بالمئة من السوريين من الفقر، وفق تقارير أممية.
يوضح أبو أحمد: "الظروف المادية المتهالكة أجبرت الأهالي على إرسال أطفالهم للعمل بهدف تأمين لقمة العيش، كالعمل في الصناعة أو عند محال بائعي المحروقات أو بائعي الخبز، هناك من يحمل كروز دخان على قارعة الطريق لبيعه".
أيضاً تقول المعلمة لمياء (اسم مستعار) لروزنة: "عائلات الطلاب لا يستطيعون شراء الدفاتر والأقلام لأطفالهم، هناك أطفال اضطروا للعمل".
إضافة لذلك عودة بعض الطلاب وعائلاتهم إلى مناطقهم بعد سقوط النظام"، تتابع موضحةً: "نسبة التسرب الكبيرة دفعت إدارة المدرسة إلى دمج صفين أحياناً".
ويشير أبو أحمد إلى أنّ من لديه القدرة المادية على تعليم طفله في مدارس خاصة، أو دروس خاصة منزلية، ترك المدرسة الحكومية: "لكن معظم الأهالي لا تسمح أوضاعهم المادية بدفع تكاليف دروس خاصة".
من أسباب التسرّب المدرسي وفق لمياء، الوضع المتردي للمعلمين الذي اضطر بعضهم لترك التعليم بهدف العمل في مهن أخرى، وهو ما انعكس سلباً على الطالب ودفعه أيضاً إلى ترك المدرسة جراء العلاقة الوثيقة بين الطالب والمعلم.
كذلك الإشاعات بعد خروج "قسد" من أنّ المدارس تحتوي على مفخخات، ما عدا مشكلة الأنفاق تحت المدارس، دفعت إلى خوف الأهالي على أطفالهم ومنعهم من الذهاب إلى المدارس "اليوم الصفوف شبه فارغة، بعضها يحتوي على 10 طلاب أو أقل حتى".
ويشير تقرير لـ"الإدارة المدنية في منبج" في شباط الماضي إلى أنّ عدد المدارس التي يوجد فيها أنفاق، ومعظمها في المدينة 16 مدرسة، حيث تتواجد الأنفاق في الباحات والأقبية. إذ عملت "قسد" على إيجاد مكاتب عسكرية في كل المدارس التي يوجد فيها أقبية، كما حفرت العديد من الأنفاق، فيما معظم المدارس تحتاج إلى صيانة وترميم.
منى (اسم مستعار) معلمة أخرى في مدينة منبج، فصلت من عملها مؤخراً، توضح لروزنة أنهم كانوا يذهبون إلى منازل الطلاب من أجل إقناعهم بالعودة إلى المدارس، دون فائدة، ليكون رد الطالب: "لدينا عملنا الآن، راحت السنة علينا".
واقترحت منى أن يكون هناك منظمات عاملة على دعم الطلاب من خلال نشاطات ترفيهية بهدف تشجيعهم للعودة إلى المدارس.
قد يهمك: تسريح معلمين في منبج يثير الغضب والاتهامات.. استبعاد الفائض أم فصل تعسفي؟
ما الحلول؟
مالك، والد أحد الطلاب، يحاول أن يجد تفسيراً لما حدث بقوله لروزنة: "الوضع ليس أمنياً وليس أيضاً مرتبط بالوضع المعيشي فقط. التعليم أصبح ضحية صراع سياسي بين جهات مختلفة. المدارس سرقت تعرضت للدمار، وإداراتها تاهت بين ولاءات متضاربة، سابقاً كانت تحت سلطة الإدارة الذاتية واليوم للإدارة السورية الجديدة".
لمالك طفلين في المرحلة الابتدائية، كان قد وضع لهما معلمة خاصة بهدف متابعة المنهاج التعليمي في المنزل من أجل عدم الانقطاع عن التعليم.
ويوضح أنّه مع بداية خروج "قسد" كانت المشكلات أمنية، بوجود المفخخات "كنا نخاف أن نرسل أولادنا إلى المدارس، منبج كان وضعها سيء أمنياً سرقات وتخريب مدارس، ما دخل المدرسة بالسياسة؟"، يتساءل.
ويشير إلى أنه رغم تحسن الوضع الأمني لا يزال غير مقبول إلى اليوم، مع العلم أنّ أئمة المساجد تطالب كل يوم جمعة مؤخراً الأهالي بضرورة إرسال أطفالهم إلى المدارس، وغالباً يأتي ذلك بتوجيهات من مديرية التربية في المنطقة.
ويضيف: "اليوم المدرسة العامة شبه فاضية، والمدارس الخاصة أصبح عليها ضغط كبير، ومعظم الأهالي غير قادرين على التسجيل فيها".
تسرب مرتفع جداً
مصدر مطّلع على أعمال مديرية التربية في منبج، أكد لروزنة، أنّ نسب التسرب من المدارس في المدينة "مرتفعة جداً"، وخاصة في الصفوف العليا، إذ لا تتجاوز نسبة الدوام في المرحلة الثانوية 10 إلى 15 بالمئة، فيما تنخفض إلى أقل من 20 بالمئة في التعليم الإعدادي، وتصل إلى نحو 40 بالمئة فقط في المرحلة الابتدائية.
ويعزو المصدر، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، هذا التراجع إلى عدة عوامل، في مقدمتها فقدان الأهالي الثقة بالعملية التعليمية بعد سنوات الحرب والتحولات السياسية المتتالية في المدينة.
وقال: "الطلاب باتوا يعتبرون أن التعليم لا جدوى منه، خصوصاً عندما يرون دخل آبائهم المتدني الذين هم في السلك التعليمي رغم سنوات الدراسة، ما يدفعهم إلى التوجه للعمل المهني أو الخاص في سن مبكرة".
ورغم أن نسبة دوام المعلمين "مرتفعة جداً" بحسب المصدر، ويتم اتخاذ إجراءات تأديبية بحق المتغيبين، فإن المشكلة الأساسية تكمن في عزوف الأهالي عن إرسال أبنائهم إلى المدارس، لا سيما في المدينة، في حين تعاني المدارس الريفية من غياب المعلمين بسبب تدني الرواتب وارتفاع تكاليف التنقل.
وأضاف المصدر أن البنية التحتية المتدهورة للمدارس، من قاعات دراسية غير مهيأة، ونقص في وسائل التدفئة والتجهيزات، ساهمت أيضاً في نفور الطلاب من العودة إلى مقاعدهم. كما أن توجه بعض الأهالي لتسجيل أبنائهم في معاهد خاصة خارج الرقابة التربوية، فاقم من تراجع مستوى التعليم في المدارس الحكومية.
وأشار إلى أن بعض المناطق الريفية، مثل محيط سد تشرين، شهدت انقطاعاً تاماً في فترة معينة بسبب الأوضاع الأمنية، ما جعل العودة إلى التعليم أكثر صعوبة. وأوضح أن المجمع التربوي يحاول التواصل مع الأهالي عبر المساجد والمجموعات المجتمعية لحثّهم على إعادة أبنائهم إلى المدارس، إلا أن الاستجابة ما تزال محدودة حتى الآن.
ولم تحصل روزنة على رد فوري من المشرف على مجمع منبج التربوي حول الواقع التعليمي في منبج والحلول للنهوض بالعملية التعليمية.
آثار سلبية للتسرب المدرسية
وعن آثار التسرّب المدرسي، يقول المعلم بو أحمد إنّ ذلك الأمر إن استمر يعني "دمار جيل علمياً وفكرياً وأخلاقياً".
ويتابع: "هناك أطفال تبيع الدخان أو المحروقات على قارعة الطريق بعيداً عن أعين الوالدين ورعاية المعلمين، إنهم عرضة لإفساد المفسدين، من لصوص ومتعاطين وغيرهم، هناك طلاب بعمر 8 و9 سنوات يدخنون!".
ويبلغ عدد المدارس في مدينة منبج وريفها 337 مدرسة موزعة على كافة المراحل الدراسية، فيما يبلغ عدد طلاب المدينة 122 ألفاً و88 طالباً، وفق تقرير لـ"الإدارة المدنية " في منبج في شباط الفائت.