مكتومو القيد السوريون في لبنان... سجناء الخيم والمستقبل المعلّق

مكتومو القيد السوريون في لبنان... سجناء الخيم والمستقبل المعلّق
التقارير | 14 نوفمبر 2020 | باسكال صوما

أطالب المعنيين بمساعدتي لإيجاد أخواتي وأمي. رأيتهنّ في المرة الأخيرة قرب مدرسة الحريري في وادي خالد عام 2015. منذ 5 سنوات لا أعرف عنهنّ شيئاً"، هكذا يشكو بشار مصباح  (16 سنة) وجعه، بعدما فقد أثر أمه وأخواته، وهو من آلاف مكتومي القيد وفاقدي الجنسية السوريين الموجودين في لبنان، وكذا أخواته، ما يجعل عملية البحث عنهنّ من سابع المستحيلات.


حسين (60 سنة) والد بشار، فقد زوجتيه وبناته الثلاث، وهو عاجز تماماً عن مغادرة المخيم الذي يقطن فيه في البقاع اللبناني للبحث عنهن، لأنه لا يملك أي أوراق ثبوتية.

فحسين مكتوم قيد، والداه لم يسجّله في سوريا، وقد رفع عليه شكوى باءت بالذوبان مع موت الوالد، ثم تزوج حسين ثلاث مرات، بعقود "برانية" أو "عرفية"، وأتى إلى لبنان قبل 20 عاماً وأنجب ثلاث بنات وصبياً، كلهم بلا أي أوراق ثبوتية. 

زوجتا حسين تركتاه والسبب واحد، عدم امتلاكه أوراقاً ثبوتية. زوجته الأولى تركته ومعها بناته الثلاث، عرف لاحقاً أنها في منطقة وادي خالد في عكار، شمال لبنان. إنما لم يستطع إيجادها منذ عام 2015، وكذا فعلت زوجته الثانية. يقول حسين لمعدّة التحقيق: "أنا لا أملك هوية ولا أملك شيئاً، أضعت عائلتي ولا أعرف كيف أجدها، كان لدي دفتر سَوق وقد فقدته. أحتاج إلى المساعدة، حتى أعرف ماذا حلّ ببناتي، وحتى يصبح وضعي قانونياً وأمتلك أوراقاً تعرّف عني".

ليست مسألة الولادات والزيجات غير المسجّلة استثناءً في المخيمات السورية في لبنان، إنها في الواقع مسألة شائعة، تخفي في طياتها أسباباً كثيرة ومعاناة تستمرّ من جيل إلى آخر، فوفق الأرقام المتوافرة 70 في المئة من الأطفال السوريين في لبنان غير مسجّلين، على رغم تحسّن بسيط في هذا المجال خلال السنوات الأخيرة، بجهود الجمعيات المحلية والدولية، وتعديل بعض القوانين اللبنانية في هذا الإطار. 

قد يهمك: اللاجئون في لبنان يواجهون موجة "كورونا" الثانية بلا PCR ولا مياه!



محمد الأمين وهو شاويش مسؤول عن نحو 50 مخيماً في لبنان يقول لمعدّة التحقيق إنّ أعداد الولادات غير المسجّلة تفوق تلك المسجّلة وفق مشاهداته، وهكذا هي الزيجات أيضاً، إذ تجرى وفق عقود برانية ولا تسجّل في دوائر الدولة اللبنانية، ما يسهّل بالتالي تخلّي الوالد عن أولاده وعدم تسجيلهم. "وقد رأينا حالات كثيرة، ترك فيها رجال نساءهم الحاملات، لعدم تحمّل المسؤولية، لا سيما في ظل الظروف الصعبة التي يواجهها مجتمع اللجوء في لبنان الذي يعاني بدوره من أزمة اقتصادية واجتماعية قاسية"، يضيف محمد.

تعديل القوانين

الكثير من السوريين الذي وصلوا إلى لبنان منذ بدء الحرب السورية عام 2011، دخلوا بأساليب غير شرعية، وعدد كبير منهم كانوا أصلاً من فاقدي الجنسية أو مكتومي القيد. دخلوا إلى الأراضي اللبنانية وهنا أنجبوا أطفالاً لم يستطيعوا تسجيلهم لأنهم أصلاً غير مسجّلين في بلادهم أو أن زيجاتهم غير مسجّلة، إنما تحصل بطريقة عرفية بوجود شيخ وشهود ولا يتم توثيق الزواج في دوائر الدولة. إضافة إلى أن الكثير من السوريين فقدوا أوراقهم الثبوتية خلال الحرب ويصعب عليهم الاستحصال على أخرى جديدة، وذلك لأنّ عدداً منهم من المعارضين أو من الذين شاركوا في الحرب ضد النظام أو أنهم هاربون من التجنيد الإجباري مثلاً. هذه الأسباب تضاف إلى قلة الوعي والمعرفة القانونية الكافية وعدم توفر الإمكانات المادية لتسوية الأوضاع.

مجلس الوزراء اللبناني أقر في 8 شباط 2018 القرار 93، القاضي بتسجيل أي مولود سوري وُلد في لبنان حتى وإن تخطّى عمره السنة، في دائرة وقوعات الأجانب ودوائر الأجانب في المحافظات اعتباراً من 1/1/2011. 

وإرسال لوائح بتلك الولادات إلى وزارة الخارجية والمغتربين، التي تقوم بتبليغها إلى الجهات السورية المختصة، وذلك بناءً على الكتاب الذي قدمه كلّ من وزير الدولة لشؤون النازحين (التي ألغيت لاحقاً)، ووزارة الخارجية والمغتربين ووزارة الداخلية والبلديات.

لكنّ ذلك لم يحلّ سوى جزء من المشكلة، إذ يوضح مسؤول وحدة الدعم القانوني في "مركز وصول لحقوق الإنسان" المحامي محمد عراجي أن "القصة تبدأ من لحظة الولادة، التي تتم في أحيان كثيرة في المخيمات عبر دايات، وجزء كبير من المجتمع اللاجئ معتاد على الداية ولم يكن ذلك يسبب مشكلة في سوريا. لكنّ الداية في لبنان لا تملك ختماً قانونياً، وبالتالي يولد الطفل ولا ورقة تثبت ولادته وساعتها. وهنا نجد استحالة في أن يستحصل الأهل على وثيقة ولادة من المختار، مع العلم أن أي طبيب أو قابلة قانونية لن يعترفوا بهذه الولادة أو يوثقوها، لأنّ هناك محاذير كثيرة في هذا السياق، منها الاتجار بالأطفال".

قد يهمك: حملت طفلها من طرابلس لمستشفى الكرنتينا... فمات في الانفجار



ويتابع لمعدة التحقيق: "وفي دوائر النفوس يتم رفض توقيع أي وثيقة ولادة غير موقعة من طبيب أو من قابلة قانونية، وهذه الحالات ما زالت كثيرة، على رغم حملات التوعية التي قامت بها الجمعيات المحلية والأجنبية. وهؤلاء الأطفال وضعهم صعب جداً، لا أحد يمكن أن يساعدهم لا في لبنان ولا حتى في سوريا في حال استطاعوا العودة. وربما سيحتاجون في وقت لاحق إلى إجراء فحوص DNA لإثبات بنوّتهم، وهذا أمر مكلف ومعقّد".

ويناشد عراجي اللاجئات "للولادة في مستشفيات أو عند قابلة قانونية حتى يحصل الطفل على وثيقة وختم على شهادة ولادته، مع العلم أن التكاليف تغطيها مفوضية شؤون اللاجئين، لكن المشكلة في الثقافة السائدة ونقص الوعي. هناك جهل بالقانون وأحياناً هناك أشخاص يعانون من مشكلة في الإقامة، فيخشون الذهاب إلى مستشفيات خوفاً من المحاسبة القانونية". ويلفت إلى أن "تكلفة وثيقة الولادة بسيطة لكنّ تسجيلها مهم جداً وضروري، وتؤثر في مسيرة الشخص كلها".

ويردف: "هناك زيجات كثيرة تحصل من دون تسجيل الزواج في وقت حصوله. يتذكّر الأهل تسجيل زواجهم بعد سنوات ويكونون قد رزقوا بأطفال، فيتم تحويلهم إلى المحكمة، حيث يتم تسجيل الزواج مع مفعول رجعيّ، بوجود شهود، كما يتم تسجيل الأطفال. لكنّ المشكلة تكون حين لا يملك أحد الأولاد وثيقة ولادة". ويشير عراجي إلى حالات كثيرة لا يملك فيها الأب دفتر عائلة أو وثائق رسمية مثلاً، فتقوم الأم بتسجيل الطفل على اسم أختها أو عمّه، وهذا أيضاً يطرح مشكلة أخرى.
 

توثيق الولادة في سوريا

تشرح المحامية السورية رهادة عبدوش أن "القانون السوريّ من حيث المبدأ يفرض توقيع قابلة قانونية أو طبيب لإتمام إجراءات توثيق الولادة. لكن في حال حصول ولادة على يد داية أو قابلة غير مسجّلة، يجيز القانون السوري لمختار المحلة تسجيل الطفل بوجود والده وشاهدين ودفتر العائلة". وتشير إلى أنّه "في حال معرفة هوية الداية التي تقوم بهذا العمل من دون شهادة رسمية، تتم معاقبتها".

وتوضح عبدوش لمعدّة التحقيق أن "الكثير من المجتمعات الريفية تفضّل التوليد على يد دايات، لأسباب تتعلّق بالتعصّب الديني وتفضيل حصول الولادة على يد امرأة بدل اللجوء إلى طبيب أو مستشفى، إضافةً إلى أن خدمة المستشفيات الحكومية ليست جيدة، والمستشفيات الخاصة غالية. وبالتالي اللجوء إلى داية أسهل وأقل تكلفة".

عدد كبير من اللاجئين السوريين في لبنان، واصلوا اللجوء إلى الدايات أسوةً بمجتمعات ريفية سورية، فاستنجدوا بـ"أم محمد" و"أم عباس" في ساعات المخاض، ما أدى إلى استحالة تسجيل الأطفال، وهو أمر كان ممكناً في سوريا، كما أوضحت المحامية

وتلفت عبدوش في هذا الإطار إلى أن مكتومي القيد في سوريا هم غالباً نتيجة زواج شفهي غير مسجّل، علماً أن أعداد مكتومي القيد ارتفعت بشكل لافت خلال سنوات الحرب. وبذلك يمكن استنتاج أن عدداً غير قليل من مكتومي القيد السوريين الذين وصلوا إلى لبنان هرباً من الحرب والقتل، بنوا عائلات مكتومة القيد بزيجات شفهية لا يمكن تسجيلها، ما يثمر أجيالاً من الأطفال المهمّشين الذين يسيرون نحو مستقبل مجهول، بلا تعليم ولا فرص عمل، ولا هوية.

تروي اللاجئة السورية هدية ضايع العمر (45 سنة) معاناتها بتأثر كبير وهي أرملة لها ابنتان مطلّقتان. لكنّ واحدة من ابنتيها طلّقها زوجها عندما أخبرته بأنها حامل، فاتّهمها بأنّ الطفل ليس منه. تركها ورحل. ولدت الأم طفلها على يد داية ولم تستطع تسجيله ولم يحظَ بوثيقة ولادة أيضاً، وسيكون مصيره بطبيعة الحال كمصير أطفال كثيرين بلا هوية ولا جنسية ولا اسم... الشاويش المسؤول عن المخيم حيث كانت النساء الثلاث يقطنّ ويعملن (في الأرض) تخلّى عنهنّ، عندما مرضت هدية وابنتها الثانية ولم تعودا قادرتين على العمل في الأرض، وبذلك أصبحت العائلة والطفل الرضيع بلا مأوى ولا عمل.
 

تقول هدية: "أنا أمشي في الشوارع الآن لأشحذ ثمن حفاضات وحليب لحفيدي الذي تخلّى عنه والده وهو الآن بلا أوراق ثبوتية ونحن جميعاً نعيش في حالة يرثى لها، عدا عن أنني وابنتي مريضتان". تعيش هدية وعائلتها في لبنان منذ 4 سنوات، وعقد زواج ابنتها كان برانياً وبالتالي لا تستطيع فعل أي شيء، وسيبقى حفيدها بلا وثيقة تثبت أنه موجود على هذه الأرض، لا سيما أن أباه اختفى متخلياً عن مسؤولياته كلها.

أخذ أولادها واختفى...

لم تستطع رهف أن تحمي أولادها، ولم تستطع أن تبقيهم معها. بعد زواج غير مسجّل في سوريا، وصلت وزوجها وأولادها إلى لبنان، حيث أنجبت أولاداً آخرين لم يتم تسجيلهم أيضاً.
 
قبل مدّة قصيرة طلّقها زوجها، حمل الأطفال الخمسة وذهب بهم إلى سوريا وهناك قرر تزويج الابنة الكبيرة القاصرة (15 سنة). لم تستطع الأم أن تفعل أي شيء، لأنها لا تملك ورقة زواج أو وثيقة ولادة واحدة لأحد أطفالها. ما زالت في أحد مخيمات اللجوء تنتظر الفرج أو المساعدة، تحاول التواصل مع أحد المقرّبين في سوريا لمحاولة التأثير في زوجها ومنعه من تزويج الطفلة، أو على الأقلّ السماح لها برؤية فلذات أكبادها... لكن لا جدوى حتى كتابة هذا التحقيق.

ماذا يفعل آلاف معدومي الجنسية أو مكتومي القيد من الأطفال السوريين في لبنان؟ إنه سؤال طرحناه على مسؤولين عن مخيمات للاجئين في أكثر من منطقة لبنانية، لا سيما أنه لا يمكن تسجيلهم في مدارس وهم لا يملكون أي هوية أو أوراق ثبوتية، ولا يمكنهم حتى التحرّك خارج المخيم. الجواب كان أنّ هؤلاء الأطفال يعملون في الأراضي الزراعية مع أهاليهم، ويتقاضون 1000 ليرة على الساعة. ويعملون 6 ساعات يومياً أي يحصلون على 6000 ليرة لبنانية في اليوم، أي  أقلّ من دولار وفق سعر الصرف المتداول الآن!

يقول أحمد وهو شاويش أحد المخيمات: "لا يملكون حلاً آخر لا هم ولا أهاليهم، لا يمكن التفكير بإدخالهم إلى المدارس. يعملون في الزراعة غالباً".
بمعنى أكثر وضوحاً، يدفع هؤلاء الأطفال ثمن جرائم أو أخطاء لا دخل لهم بها، يتحمّلون وزر زيجات غير مسجّلة، وثقل نزوح قاسٍ ووثائق لا يحصلون عليها، ثمّ يتمّ تشغيلهم، بما يخالف شرعة حقوق الإنسان واتفاقية حقوق الطفل الصادرة عام 1989، وأيضاً يخالف القانون اللبناني الذي يمنع تشغيل الأطفال أو استغلالهم. 

اتصلت معدّة التحقيق بالمفوضية العامة لشؤون اللاجئين للسؤال عن هذا الموضوع. وفي هذا الإطار، تشير المسؤولة الإعلامية في المفوضية ليزا أبو خالد إلى أنه "تم إحراز تقدم كبير على وجه التحديد في السنوات الثلاث الماضية في ما يتعلق بخطوتين مهمتين في عملية تسجيل المواليد:




قد يهمك: انفجار بيروت: آثار مؤلمة في قلوب اللاجئين السوريين



كيف يمكن أن يواجه لبنان مليون مكتوم قيد سوري مثلاً إذا استمرّ الأمر على ما هو عليه؟ وفي لبنان أكثر من 80 ألف مكتوم قيد (بصرف النظر عن اللجوء) وهو رقم غير نهائي، لكن لا دراسات حديثة حول هذا الموضوع، وبالتالي يمكن أن يكون الرقم مضاعفاً الآن. ومع مكتومي القيد من السوريين، ستزداد المشكلة تعقيداً، بعد سنوات قليلة، وسيواجه هؤلاء أزمة حقيقية في الاندماج في المجتمع.

هذا علماً أن طرق العودة إلى سوريا ليست آمنة أو متوفرة للجميع، كما أن الدولة السورية فرضت راهناً مبلغ مئة دولار على كل سوري يدخل أراضيها من الخارج، فكيف تؤمن العائلات هذه المبالغ مثلاً؟ 

هذا يضاف إلى الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها المناطق السورية المدمرة، إضافةً إلى أن كثيرين فقدوا كل شيء في سوريا، ولا مكان ليعودوا إليه حتى. ما يفرض على عدد كبير من أطفال المخيمات السورية مصيراً صعباً، هم بلا أوراق في لبنان وبالتالي لا يمكنهم التعلّم أو العمل أو حتى الخروج من المخيم خوفاً من الحواجز، وهم أيضاً محاصرون باستمرار الحرب في بلدهم وصعوباته الاقتصادية، فيعيشون بين حقول البطاطا وبساتين الأشجار، يختبئون تارةً من الحرب والمدافع، وطوراً من حواجز تفتيش الهويات. تمرّ الحياة ولا تأبه للأصابع الصغيرة التي بدل أن ترسم الشمس على ورقة، ها هي تحترق تحت نارها.

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق