تقارير | 25 05 2020
"الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إمّا أن يكون حرّاً أو لا يكون حرّا"
الجملة أعلاه قالها رجل، لا يمكن لمن يمتلك الحد الأدنى من الإنسانية إلا أن يخصه باحترام في العالم أجمع، وهو يرقد اليوم في مشفاه، بأعوامه الخمسة والتسعين التي قضى أكثر من ربعها في السجن وأكثر من ثلاثة أرباعها وهو يحارب من أجلها.
المناضل" ماديبا" أو العظيم المبجل هكذا يلقب أهل بلده نلسون مانديلا، الشخصية الفذة القريبة من عالم الأساطير، هي اليوم من نستطيع أن نلجأ إليها لنكشط عن هذه الكلمة بعضا مما علق فيها، من القدح المنظم الذي أنفقت عليه دول ومؤسسات المليارات لمنع تشكلها في الوجدان، لوقف المطالبة بها، وربطها بأبشع ما يمكن أن يصدر عن الإنسان. فكلما تسمع أحدهم يسخر من الحرية، اعرف إنه منتهك في إنسانيته، ولديه كل الاستعداد ليحيا هو وذريته في عالم من أمان الرقيق.
مانديلا المؤمن بالكفاح المسلح للتخلص من أقسى نظام تعسفي عنصري عرفته البشرية، سُئل يوما، عن الدوافع التي أبقت معنوياته مرتفعة، وإرادته صلبة رغم كل العنف والظلم الذي وجوه به هو ورفاقه وشعبه فكانت أجابته:
"القدرة على الاحتفاظ بالعقل السليم، والقلب الكبير، وبفضل هاتين النعمتين، وجدت أن من الأفضل، مشاركة الأقلية البيضاء، في تقرير مصيرها ومصيرنا، وقد تعاونت مع رئيس نظام التمييز العنصري دو كليرك الذي فاوضته من أجل إرساء دعائم الديمقراطية".
من خلاصة هذه التجربة التي خاضها مانديلا وشعبه يمكن لنا نحن أن نستخلص العبر، فهي الأقرب إلينا من كل الثورات التي قامت بالعالم.
بالحقيقة ما كان لنظام جنوب أفريقيا" الأبارتيد" المخزي أن ينتهي، لولا بالطبع نضال منديلا ورفاقه، ونشدد على كلمة رفاقه. ونزيد على ذلك وجود الرجل التاريخي" دو كليرك" في الأقلية البيضاء العنصرية وبعض رفاقه. فهو الذي امتلك الشجاعة، ليقوم بالاعتراف أن الأقلية مهما امتلكت من سلاح ومقدرات البلاد، ومهما حظيت من أسلحة ودعم من قوى عظمى ومهما امتلكت من ميلشيات ومرتزقة لا يمكن لها أن تبقى أسيرة فكرة الاصطفاء الطبيعي، وتبقى حاكمة، لأنها تتحدى الطبيعة نفسها، وسيأتي يوم تنهار فيه منظومتها.
من هنا سيبدو وجود رأس النظام ورفاقه، هو المانع الأقسى لوقف الدم والدمار في سوريا. فعلى هذا النظام في سوريا أن يوجد دوكليرك خاصته إن كان له أمل في تسوية.
اليوم جنوب أفريقيا تسير قدما، وجيل جديد من الجنوبيين البيض والسود يزور زنزانة منديلا، التي حضنته 28 عاما ليتعلموا الصبر والصلابة من هذا الرجل الذي قال يوما: "التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل".
مانديلا الناشط السلمي الأممي، تدرب بالجزائر على الكفاح المسلح، حين وجد أنه من المستحيل تغير بنية النظام المكابر المتكبر وبقي في السجن لأنه رفض أن ينبذ العنف بل صرخ قائلا:
"إذا خرجت من السجن في نفس الظروف التي اعتقلت فيها فإنني سأقوم بنفس الممارسات التي سجنت من أجلها".
اليوم كل هذا أصبح بعهدة التاريخ، وما كان مستحيلا في جنوب أفريقيا أصبح واقعا، وقدم هذا البلد، الذي يعتقد أن الإنسان الأول نشأ به، نموذجين إنسانيين عظيمين الأول، هو دو كليريك، وبالطبع الثاني من يلفظ أنفاسه الأخيرة هذه الأيام.
"إني أتجول بين عالمين، أحدهما ميت والآخر عاجز أن يولد، وليس هناك مكان حتى الآن أريح عليه رأسي" جملة أخرى تشبه ما يعانيه اليوم الحال السوري، فمن كان يبتغي الخلاص عليه أن يفهم اليوم أن نظام بشار الأسد لم يعد قائما إلا بقوة التوازنات خارجه، وأن الثورة بشكلها الحالي مستمرة بقوة الألم وحده. إذا كان لنا أن نتأمل وجود وطن، علينا السعي لتمثل ما يشبه قيم الرجلين مانديلا ودو كليرك وما يمثلانه معا.
في النهاية لم يبق من نظام الأبارتيد، سوى الذكريات المخجلة في مكب نفايات التاريخ. ومانديلا في قلب الحاضر والمستقبل كأحد أنبل صنّاع التاريخ.
وأخيرا تبدو رسالة " ماديبا " لثوار العرب تستحق كل التأمل اليوم في مصر، وغدا سنحتاجه بشدة بسوريا، فما أشبه النظامين، "الأبارتيد، والأسدتيد". لكن الأول واضح وفج والثاني، مستور باسم المقاومة تارة، ويتصدر كأزعر الحي الذي لا يكف عن تهديد الجميع بالدمار.
*مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة، وإنما تمثل رأي كاتبها.