تقارير | 11 01 2022

"بلغت من العمر خمسين عاماً، وما زلت حتى الآن أبحث عن سقف يؤويني وإقامة في بلد آمن يحترمني ويحترم عائلتي"، تنهمر الدموع من عيني عائشة بحرقة محدّقة في فنجان قهوتها.. "لا يمكنني العودة إلى سوريا طالما بقي بشار الأسد في السلطة، أبناء أخي قتلوا في الحرب، واعتقل رجال آخرون من عائلتي… فر العديد من أفراد عائلتي من البلاد، ولا يزال الناس يهربون حتى اليوم".
يقاتل السوريون في الدنمارك للحفاظ على إقاماتهم هناك، فيما يحاول آخرون التوجه إلى بلدان أوروبية أخرى للبحث عن ملجأ جديد، قررت كوبنهاغن أن دمشق آمنة وبأن السوريين القادمين من العاصمة السورية وريفها لا يستحقون اللجوء بعد اليوم وعليهم العودة إلى بلادهم.
في هذا التحقيق قمنا بالتواصل مع عشرات السوريين الهاربين من الدنمارك إلى السويد وهولندا وبلجيكا وألمانيا، ورصدنا أوضاعهم القانونية وتحدياتهم المعيشية ورحلات اللجوء المؤلمة التي يقومون بها اليوم بين الدول الأوروبية.
أنجزت مؤسسة روزنة للإعلام هذا التحقيق كجزء من تحقيق آخر موسع قادته مؤسسة لايت هاوس للصحافة الاستقصائية، بالتعاون مع صحيفة "تراو" في هولندا، مجلة "كناك" للصحافة الاستقصائية وجريدة "لافيف" في بلجيكا، "ديرشبيغل" في ألمانيا، و جريدة "سيديفنسكان" في السويد و"جريدة انفورميشن" ومشروع "ميديا بريدج" في الدانمارك.
في بلجيكا
تتدفق ذكريات عائشة مؤلمة حزينة "لم أكن سعيدة على الإطلاق عندما عرفت أن زوجي وصل إلى الدنمارك وطلب اللجوء هناك عام 2014"، سمعت المرأة أخباراً سيئة عن وضع اللاجئين في الدنمارك.
زوجها اضطر للبقاء هناك رغم رغبته بالوصول إلى السويد أصلاً. وصلت عائشة مع ابنيها إلى الدنمارك بموجب لم شمل الأسرة بعد عام ونصف العام، وبدأ الجميع محاولاتهم بناء حياة جديدة.
على مدى سنوات، سعت الحكومة الدنماركية جاهدةً إلى الحد من عدد طالبي اللجوء، ولتحقيق ذلك تقوم كوبنهاغن بسن سياسات صارمة بشكل متزايد، في عام 2016 تم تقصير مدة الإقامة الممنوحة للاجئين من خمسة إلى سنتين يجب تجديد طلب اللجوء بعدهما، كما تم تشديد قواعد الحق في لم شمل الأسر، والذي أصبح ممكناً فقط بعد ثلاث سنوات من وصول أحد أفراد العائلة إلى الدنمارك.
تلقى أيوب زوج عائشة إبلاغاً من السلطات الدنماركية بعدم تجديد حمايته المؤقتة، وبوجوب مغادرته البلاد مع زوجته والأبناء، استأنف المحامي القرار، ولكن العائلة قررت مثل الكثيرين أن تمضي في خطة احتياطية أخرى.
غادرت عائشة وابناها إلى بلجيكا على أمل الحصول على الحماية هناك، وبعد وقت قصير قرر الابن الأصغر العودة إلى الدنمارك، سرعان ما حصل الشاب على حق اللجوء السياسي في الدنمارك بسبب كونه ضمن سن التجنيد الإجباري في سوريا.
تتذكر عائشة كلمات ابنها عندما بكى وقال: "لا استطيع البدء من جديد في بلجيكا، بعد أن انهيت دراستي الثانوية وتأهلت لإكمال دراستي الجامعية في الدنمارك".
كان بإمكان الابن الأكبر الحصول على اللجوء السياسي في الدنمارك كأخيه الصغير، ولكنه فضّل البقاء مع والدته، يحدق الشاب في هاتفه الجوال طويلاً ثم يرفع عينيه ليخبرنا "لم أعد أشعر بالأمان في الدنمارك، أنا لا أثق بكلامهم، قالو لنا خذوا 140 ألف كورونة وارجعوا إلى سوريا، وكأننا أتينا من أجل المال!".

يعيش في الدنمارك حوالي 35 ألف سوري ، منهم 4700 شخص حصلوا على حماية مؤقتة، من بين هؤلاء قرابة 1250 شخصاً من دمشق ومحيطها، وبحسب البحث الذي قام به الشركاء في هذا التحقيق، فإن السلطات الدانماركية ألغت 378 تصريح إقامة حتى الآن، منها 101 قرار قيد الاستئناف وأكثر من 400 ملف ما زال قيد المراجعة.
وصل من الدنمارك إلى بلجيكا 54 شخصاً من الجنسية السورية بين كانون الثاني/يناير 2019 وتشرين الثاني/نوفمبر 2021 في بلجيكا تم إعادة اثنين فقط إلى الدنمارك بموجب معاهدة دبلن، فيما سافر ما لا يقل عن 265 شخصاً إلى ألمانيا و62 إلى السويد و40 إلى هولندا وفقاً للأرقام التي حصل عليها الشركاء في هذا التحقيق من مكاتب الهجرة في البلدان الأوروبية الأربعة.
من المرجح أن عدد الذين خرجوا من الدنمارك أعلى من هذه الأرقام لأن البيانات ليست كاملة دائماً، إضافة أنه من الممكن أن بعض السوريين سافروا إلى بلدان أخرى، أو تجنبوا الإحصائيات أو لم يكشفوا عن وجهة قدومهم من الدنمارك.

تقول عائشة: "أعرف بعض العائلات التي وصلت إلى بلجيكا من الدنمارك، تشجعت على فعل الشيء نفسه، سمعت أيضاً أن بلجيكا أكثر انفتاحاً على اللاجئين"، بعد تقدم عائشة وابنها لطلب اللجوء في بلجيكا بدأت بالعمل في التنظيف وابنها عمل بشكل مؤقت في مصنع للكرتون، تقول عائشة أن الأمور كانت مقبولة، تم رفض طلب لجوء عائشة بناء على اتفاقية دبلن، وطلبت الدنمارك اعادة ملفها من بلجيكا.
يسقط قرار دبلن أو كما يُقال "بصمة دبلن" بعد مرور ستة أشهر على رفض طلب اللجوء في بلجيكا، الأمر الذي سيسمح لعائشة بتقديم طلب لجوء جديد، وفي هذه الأثناء لا تستطيع عائشة البقاء في المخيم، كان عليها الخروج مع ابنها وإيجاد سكن بطريقة ما.
تقول عائشة: "نحنا عايشين.. منتظرين تنتهي فترة الستة أشهر لنقدر نقدم طلب لجوء من جديد ببلجيكا"، وتتوقع جايل جوردنز محامية عائشة وابنها البكر أن عائشة ستتمكن من بدء اجراءات اللجوء من جديد خلال شهر كانون الثاني/يناير الحالي، وبأنها لن تضطر لاستئناف القرار الماضي بإعادة عائشة إلى الدنمارك.
في هذه الأثناء حصل أيوب زوج عائشة على رفض لقرار استئنافه في الدنمارك، يعيش الرجل متخفياً في بيته، فهو لا يريد الذهاب إلى مخيم الترحيل، محامي أيوب نيلز إيريك هانز يحاول إعادة فتح قضيته لدى لجنة استئناف قضايا اللاجئين.
في هولندا
"أطلق جيش النظام السوري النار على عمي الأسبوع الماضي"، قالت رنا بصوت مرتجف في قاعة المحكمة الهولندية "سوريا ليست آمنة لي ولعائلتي"، تنهمر الدموع على خديها.
هربت المرأة البالغة من العمر 30 عاماً إلى الدنمارك في عام 2015 وبنت حياة جديدة؛ تزوجت وأنجبت ولداً، كان والداها وشقيقاها قد سافروا أيضاً إلى الدنمارك في وقت سابق، تعلم الجميع اللغة الدنماركية وتطلعوا إلى المستقبل.
لكن في كانون الأول/ديسمبر 2020، أُبلغت رنا بإلغاء تصريح إقامتها، تركت رنا زوجها في الدنمارك وهربت مع ابنها البالغ خمس سنوات إلى هولندا، سمحت الدنمارك لأخويها بالبقاء في البلاد بموجب لجوء سياسي مبني على امكانية إجبارهم أداء الخدمة الإلزامية في سوريا، ولكن تم سحب إقامة والديها، تمزق شمل العائلة كعشرات العائلات السورية الأخرى في الدنمارك.
لتبرر السلطات الدنماركية قرارها "دمشق آمنة" اعتمدت على تقريرين، اعترض عليهما خبراء شاركوا بإعداد التقارير نفسها، وذكر البرلمان الأوروبي في قراره بشأن الصراع السوري بعد مرور عشر سنوات على بدء الثورة السورية بأن سوريا ليست دولة آمنة يمكن العودة إليها، ودعا البرلمان جميع الدول الأوروبية لعدم تعديل سياساتها بخصوص قواعد الحماية واللجوء للمواطنين السوريين.
مكتب دعم اللجوء الأوروبي (EASO) وهو المكتب الذي يقدم المشورة للدول الأوروبية بشأن سياسات اللجوء، قال في تصريح له صدر نهاية نوفمبر 2021، أن مجرد خروج أي سوري كلاجئ وعودته إلى البلاد قد تعرضه لتداعيات خطيرة جراء عودته.
وذكرت تقارير من منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش أن عشرات اللاجئين الذين عادوا إلى مناطق الحكومة، بما في ذلك دمشق والمنطقة المحيطة بها ، تعرضوا للاعتقال والتعذيب على الفور ووثقت روزنة في تحقيق "فخ التسويات يصطاد اللاجئين العائدين إلى سوريا" شهادات أشخاص تعرضوا لانتهاكات خطيرة لدى عودتهم إلى سوريا.
وذكر التقرير الحكومي الهولندي الخاص بوضع اللاجئين السوريين والصادر عام 2021 "العوائق والتهديدات العديدة التي تواجه عودة النازحين واللاجئين".
تم رفض طلب لجوء رنا في هولندا بموجب اتفاقية دبلن، والتي تنص على أن الدنمارك معنية بمعالجة ملفها وليس هولندا، قدم محامي رنا مارك ويجنجاردين اعتراضاً إلى مجلس الدولة الهولندي، وهو أعلى محكمة لشؤون الأجانب، فيما تلقى والدا رنا، اللذان وصلا إلى هولندا في حزيران/يونيو، رسالة من مصلحة الهجرة الهولندية تفيد بأن طلبهما لن يندرج تحت دبلن، وبأنه سيتم التعامل معه كطلب لجوء جديد، وهو أمر إيجابي حيث أن هولندا وافقت على أكثر من 90 في المئة من طلبات لجوء السوريين خلال عام 2020.
وينتظر آخرون قرار محكمة العدل الأوروبية في إمكانية تطبيق مبدأ عدم الإعادة القسرية، بحسب اتفاقية جنيف لحقوق الإنسان.
في ألمانيا
يرقد نبيل الخطيب في سريره بالدنمارك، تكبّل أجزاء جسده أجهزة العناية المركزة لتقيس نبضات قلبه، يتدلى السيروم من ذراعه، ينظر حوله ويقول: "هلق مو وقتها".
تم تحديد موعد محاكمة نبيل في اليوم التالي، لمراجعة قرار سحب إقامته في الدنمارك، وبالتأكيد شأنه شأن سوريين كثر، يخشى العودة إلى سوريا حيث قُصف منزله وقُتل ابن أخيه.
كان نبيل دائماً بصحة جيدة. حصل على وظيفة في الدنمارك وكان يعمل بشكل جيد حتى إبلاغه بإلغاء حقه في الإقامة. أصيب بالاكتئاب، عانى من مشكلات في التركيز واضطر إلى ترك وظيفته في شركة لوجستية. الآن وفي الليلة التي سبقت آخر جلسة استماع له في المحكمة، انهار الرجل.
تعيش زوجة الخطيب وأطفاله الأربعة بالقرب من أولدنبورغ في ألمانيا حيث ينتظرون إمكانية حصولهم على حق اللجوء هناك.
غادر الجميع الدنمارك في عام 2019 خوفاً من الترحيل، بينما بقي نبيل في الدنمارك في محاولة من العائلة لرسم خطة أ وخطة ب تساعدهم على تجنب الأسوأ.. وهو العودة إلى سوريا في حال تم سحب إقاماتهم، فنبيل كان شارك سابقاً في المظاهرات، وأسرتهم معروفة بكونها معارضة للنظام السوري.
كما هو وضع عائشة في بلجيكا، فبالنسبة لزوجة نبيل والأولاد مرّت فترة الستة أشهر التي تُسقط "بصمة دبلن" في ألمانيا، وبات بإمكانهم الآن تقديم طلب لجوء جديد في ألمانيا، في هذا الوقت كانت جلسة نبيل تأجلت في الدنمارك بسبب وضعه الصحي.
ليس هناك قرارات واضحة في ألمانيا بخصوص التعامل مع طلبات اللجوء للسوريين القادمين من الدنمارك، تمت إعادة 45 من أصل 265 شخصاً من ألمانيا إلى الدنمارك بموجب اتفاقية دبلن، يقول المتحدث الصحفي باسم المحكمة الإدارية العليا في برلين لصحيفة الديرشبيغل: "نتعامل مع كل حالة بشكل منفصل".
في السويد
وصلت آفين إلى الدنمارك عام 2015، حصلت على إقامة لمدة سنتين فقط، وافقت السلطات على تجديد إقامتها لعام إضافي، كان على آفين الانتظار قبل أن يصلها قرار رفض تجديد إقامتها، حاولت الشابة الصغيرة جاهدة تعلم اللغة والذهاب إلى المدرسة، بعمر الـ 19 عاماً واجهت تمييزاً عنصرياً بسبب حجابها كما تقول "تعرضت للتمييز بسبب لباسي، كنت أسمع كلاماً قاسياً ومزعجاً في الشارع أيضاً".
تزوجت الفتاة من الشاب الذي تحبه، ولكنهما لم يستطيعا تسجيل زواجهما بشكل قانوني لدى السلطات الدنماركية لأن آفين لا تملك إقامة، انتقلت آفين إلى السويد حيث يعيش زوجها في مدينة مالمو، وتقدمت بطلب لجوء إلى السويد، لكنه قوبل بالرفض، قال لها القاضي إن عليها مغادرة الأراضي السويدية إلى الدنمارك وذلك بموجب اتفاقية دبلن، فالدنمارك مسؤولة عن معالجة قضية آفين كلاجئة، تقول آفين: "قال لي القاضي في الدنمارك أنت صغيرة ولن يفعلوا لك شيئاً في سوريا".

أبلغت السويد 25 لاجئاً سورياً برفضها طلبات لجوئهم وبأن عليهم العودة إلى الدنمارك بموجب اتفاقية دبلن، يقول مورتن لوفبرج الأمين العام لمكتب الهجرة واللجوء في السويد في تصريح لجريدة سيدسفينسكان أن "خطر الإعادة إلى سوريا التي مزقتها الحرب ليس سبباً كافياً لمنح اللاجئين الذين فقدوا إقامتهم في الدنمارك الحماية في السويد". بالتالي فالسويد ستواظب على إعادة اللاجئين السوريين إلى الدنمارك حتى إشعار آخر قد يغير من سياستها.
تعاني آفين من نوبات هلع مستمرة "لا أستطيع النوم إلا بصعوبة شديدة"، الشابة الصغيرة خائفة من إعادتها إلى الدنمارك، وهي تسكن مع زوجها ولكنها لا تستطيع العمل، أو تعلم اللغة السويدية أو الذهاب إلى المدرسة لتحقق حلمها بأن تصبح ضابط شرطة.
هل الدنمارك بلد آمن للسوريين؟

قضت محكمة برلين الإدارية مؤخراً في إحدى القضايا بأن الدنمارك ليست دولة آمنة للاجئين السوريين بسبب سياساتها المتعلقة بالهجرة.
إعادة السوريين من البلدان الأوروبية إلى الدنمارك بناءً على اتفاقية دبلن من شأنه أن يعرضهم لخطر الإعادة القسرية غير المباشرة، وفي ذلك انتهاك للمادة 3 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والمادة 4 من ميثاق (الحقوق الأساسية لحقوق الإنسان).
ليس لدى الدنمارك علاقات دبلوماسية مع دمشق حتى الآن، لذلك ليس بإمكانها ترحيل اللاجئين السوريين إلى هناك، ولكنها تقوم بإرسالهم إلى أماكن يطلق عليها "مراكز الترحيل" تمهيداً لعودتهم "الطوعية" إلى سوريا، وهي مراكز سيئة السمعة يحصل اللاجئون فيه على ثلاث وجبات وبدل مالي صغير جداً، يُمنعون من مغادرة المركز لمدة تزيد عن 24 ساعة.
لا يمكن للاجئين العمل، والأطفال لا يذهبون إلى المدرسة، تنتشر في مجموعات اللاجئين السوريين بالدانمارك على فيس بوك صور توضح الأوضاع المزرية للمراكز، وتبين الإهمال الشديد لأبسط الاحتياجات الأساسية.
يتخذ أعضاء في البرلمان الأوروبي زمام المبادرة لمحاسبة الحكومة الدنماركية على تجريد السوريين من تصاريح إقامتهم وبتهديدهم بالإعادة إلى سوريا، بعد أشهر من التأخير، من المرجح عقد جلسة استماع في 13 يناير مع كبار المسؤولين الدنماركيين في لجنة الحرية المدنية بالبرلمان الأوروبي.
على أمل أن يحصل السوريون في الدنمارك على سقف أوروبي عادل...