تقارير | 25 05 2020
في السابع من شهر نيسان عام 1947، أُعلن عن تأسيس حزب البعث في دمشق، تحت شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؛ وأهدافه وحدة حرية اشتراكية، وهي التي تجسد الوحدة العربية كما عرّفه مؤسسيه، كذلك التحرر من الاستعمار والإمبريالية، وإقامة النظام الاشتراكي العربي، كما يوصف الحزب نفسه على أنه مزيج من الاشتراكية، والقومية العربية والعلمانية.
وفي هذه المادة الوثائقية؛ يسرد لكم شهود معاصرين لوقائع من الذاكرة السورية استضافهم راديو روزنة، عرضاً تاريخياً في ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا، يتحدثون من خلاله عن مراحل مهمة من الذاكرة السورية.
الأمين العام لحزب البعث الديمقراطي المعارض؛ محمود جديد، تحدث لـ "راديو روزنة" عن الظروف التاريخية لتأسيس الحزب ونشوئه بالقول أن "حزب البعث تأثر بالاشتراكية الإصلاحية التي كانت في فرنسا بسبب مؤسسيه (صلاح الدين البيطار وميشيل عفلق) أثناء دراستهم الجامعية في فرنسا".
وليثبت الحزب وجوده بعد ذلك؛ جراء تفاهم بين حزب البعث العربي (وهو الاسم الذي كان عليه الحزب بداية نشأته) قبل أن يندمج معه الحزب العربي الاشتراكي برئاسة أكرم الحوراني، وليمتد الحزب نفوذه بين صفوف الفلاحين الذين دعموا حزب البعث العربي لنضاله من أجل حقوقهم، وكذلك كسبوا تأييد العمال بعد الدعم الذي قدمه لهم الحوراني في مناطق من حماة وفي وسط سوريا؛ بحسب شهادة جديد؛ لـ "روزنة".
وصل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم في سوريا عام 1963 بعد سلسلة من الاضطرابات السياسية في البلاد، وتميزت فترة حكم البعث والتي ماتزال مستمرة لليوم؛ تميزت بالتفرد بالسلطة والاستبداد بشكل وصل إلى كل مفاصل الدولة، حيث ساعد حزب البعث الذي تزعمه حافظ الأسد منذ عام 1970 في تسلطه على المشهد السوري؛ من خلال أجهزة أمنية بناها وربط بها مقومات الدولة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
صلاح جديد.. مفتاح عبور الأسد للسلطة؟
برز اسم صلاح جديد؛ كشخصية قيادية مؤثرة في حزب البعث إبان مرحلة انفراط عقد الوحدة بين مصر وسوريا في الستينيات من القرن الماضي، جديد الذي ترك دراسة الطب ليلتحق بـ "الجيش السوري" في نهاية عقد الخمسينات، أسس في مصر اللجنة العسكرية بالشراكة مع حافظ الأسد، محمد عمران، أحمد المير، عبد الكريم الجندي، عثمان كنعان ومنير الجيرودي.
حيث جاءت تلك الخطوة كردة فعل على إعلان القيادة التاريخية لحزب البعث ممثلة بميشيل عفلق وصلاح البيطار، حل الحزب في عام 1958 تلبية لاشتراط الرئيس المصري في ذلك الوقت جمال عبد الناصر، بتجميد كل نشاط حزبي في سوريا كشرط لتحقيق الوحدة بين البلدين.
وحينما أُعلن انفصال سوريا عن مصر، اعتُقل صلاح جديد مع ضباط سوريين في مصر، وأُفرج عنه بعد أشهر قليلة، وتجددت اتصالات صلاح جديد بعدها بزملائه في اللجنة العسكرية، و شارك في انقلاب البعث على عبد الكريم النحلاوي في الثامن من آذار لعام 1963، باعتبارها ثورة العامل والفلاح على حكومة الانفصال التي وصلت إلى السلطة بعد الانتخابات التي تلت الانفصال عن مصر.
تعزز بعدها مركز صلاح جديد في قيادة سلطة البعث من خلال الانقلاب على أمين الحافظ ( ممثل القيادة القومية للحزب) عام 1966، وقال في حينها قادة الانقلاب (الذين يمثلون القيادة القطرية للحزب)؛ بأنهم يسعون لتطبيق برامج حزب البعث ومقرراته علميًا ورفع مستوى المعيشي لعموم الشعب العربي السوري، وتولى حينها صلاح جديد منصب الأمين العام المساعد للحزب منذ عام 1964 بعد أن استقال من الجيش، وهنا بدأ نفوذ حافظ الأسد بالتوسع ليخلق صراعاً محتدماً بين جديد ووزير الدفاع حافظ الأسد آنذاك.
بعد أحداث أيلول في الأردن من العام 1970 (وهو الصراع الذي نشب بين الحكومة الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية) رفض الأسد تنفيذ أوامر صلاح جديد بدعم منظمة التحرير، ليدعو جديد إلى مؤتمر استثنائي للحزب في 13تشرين الثاني 1970 قرر فيه تجريد الأسد مهامه.
وما كان من حافظ الأسد إلا أن قام بتنفيذ انقلاب عسكري في الـ16 من تشرين الثاني أمسك من خلاله بالسلطة ووضع صلاح جديد ونور الدين الأتاسي رئيس الدولة في حينها؛ تحت الإقامة الجبرية قبل أن يأمر بسجنهما.
يروي محمود جديد في شهادته لـ "راديو روزنة" عن تلك الحقبة؛ بالقول: " حين اشتداد الصراع (آنذاك) جاءت تعليمات من القيادة القومية (لحزب البعث) بدعم معركة حافظ الأسد ضد القيادة القطرية للحزب، وأبدى الضباط الانفصاليين دعمهم لحافظ الأسد، وكذلك أيضاً أيد حافظ الأسد؛ الضباط الذين كانوا يتبعون لدولاً خليجية، فضلاً عن الإتحاد السوفييتي آنذاك والذين أبدوا دعمهم لحافظ الأسد مقابل المساومة على القرار الدولي (242) للعمل على تصفية القضية الفلسطينية".
والقرار 242 هو الذي أصدره مجلس الأمن الدولي في 22 تشرين الثاني 1967، وجاء في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية التي وقعت في حزيران 1967 والتي أسفرت عن هزيمة الجيوش العربية واحتلال إسرائيل لمناطق عربية جديدة، وقد جاء هذا القرار كحل وسط بين عدة مشاريع قرارات طرحت للنقاش بعد الحرب، وورد في المادة الأولى، الفقرة أ: "انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلت في النزاع الأخير".
وقد حذفت "أل" التعريف من كلمة "الأراضي" في النص الإنجليزي بهدف المحافظة على الغموض في تفسير هذا القرار، وإضافة إلى قضية الانسحاب فقد نص القرار على إنهاء حالة الحرب والاعتراف ضمنا بإسرائيل دون ربط ذلك بحل قضية فلسطين، ويشكل هذا القرار منذ صدوره صُلب كل المفاوضات والمساعي الدولية العربية لإيجاد "حل" للصراع العربي الإسرائيلي.
واعتبر محمود جديد؛ في شهادته لـ "روزنة" أن من جاء بـ حافظ الأسد لتزعم الحكم في سوريا كان هدفهم الرئيسي قطع الطريق على المشروع التقدمي اليساري الثوري لحزب البعث، لأنها باعتبار "جديد" كانت تجربة صالحة للاقتداء في تجميع العرب على أساسها، وأضاف "كان مشروعهم بأن تتحول سوريا إلى هانوي فلسطين، بأن يعملوا على جلب كل مناضلي العالم إلى سوريا من أجل الكفاح في فلسطين".
كذلك ذكر جديد خلال حديثه بأنه و في كل المراحل الأساسية من تاريخ حكم البعث كان صلاح جديد ضد حافظ الأسد خصوصاً بعد 5 حزيران 1967، وكان أيضاً ضد ترفيعه عسكرياً حينما عمل رئيس الدولة آنذاك "أمين الحافظ" على ترفيعه لرتبة لواء وتسليمه سلاح الطيران، واعتبر في شهادته لـ "روزنة" أن حافظ الأسد كان يضع الناس ضمن ظروف الفساد حتى يستطيع ترويضهم كما يشاء ليكونوا ألعوبة بين يديه.
كاشفاً عن دعم خليجي كبير كان يقدم لحافظ الأسد وقت استلامه للحكم بمبالغ سنوية تقدر بثلاثة مليارات دولار، وكذلك فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية تخصص سنوياً لسوريا ما يقارب الـ 89 مليون دولار، إلا ذلك الدعم توقف عام 1989، مشيراً في الوقت ذاته إلى توافر دعم دولي مؤيد لاستلام حافظ الأسد للسلطة آنذاك، وكان ذلك ضمن سياق تنفيذ القرار 242 المتعلق بتصفية القضية الفلسطينية، وحتى أيضا دخوله إلى لبنان كان ضمن هذا السياق، وكذلك في هذا السياق ذهب إلى القتال في الكويت تحت الراية الأمريكية.
خصوم البعث… أنداد السياسة!
القيادي في الحزب الشيوعي-المكتب السياسي؛ محمد سيد رصاص، كشف في شهادته لـ "راديو روزنة" عن تبدل نظرة الأحزاب الشيوعية تجاه الأحزاب القومية في الخمسينات عندما تقارب عبد الناصر مع السوفييت؛ "جرت تقاربات بين الشيوعيين والقوميين بسوريا؛ حيث جرى تعاون في البرلمان بين النائب الشيوعي خالد بكداش وكتلة حزب البعث في البرلمان".
سرعان ما تبدلت تلك العلاقة بعدما حصل انقلاب الثامن من آذار عام 1963، حينما عمل حزب البعث على اعتقال كوادر الشيوعيين؛ بحسب حديث "سيد رصاص" "تحسنت العلاقات بعد حركة 23 شباط 1966 التي قادها الجناح اليساري لحزب البعث، إلى أن أطيح بسلطة اللواء صلاح جديد في 16 تشرين الثاني عام 1970، حيث انقسمت اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي؛ بين مؤيد ومعارض للحركة، مشيراً إلى ضغوطات سوفيتية لتأييد الحركة آنذاك".
القيادي في الحزب الشيوعي-المكتب السياسي أشار في شهادته أن الانقسام عاد مجدداً في اللجنة المركزية بالنسبة للدخول في الجبهة الوطنية التقدمية عام 1972، "على إثرها جرى الانقسام في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، بين خالد بكداش الموالي للسوفييت والحزب الشيوعي-المكتب السياسي، ودخل المكتب السياسي في عدة تجاذبات مع جناح بكداش؛ في نسق معارض لحكومة البعث القائمة آنذاك؛ لينضم إلى التجمع الوطني الديمقراطي عام 1979".
وكشف رصاص في حديثه لـ "روزنة" أن التجمع الوطني الديمقراطي شكّل أثناء صِدام النظام مع الإخوان المسلمين في وقتها؛ خطاً ثالثاً بين النظام وحلفائه والمعارضة الإسلامية، " وبسبب ذلك جرت الاعتقالات ضمن صفوف المكتب السياسي للحزب الشيوعي في تشرين الأول عام 1980".
معتبراً أن الخلافات بين أطراف الحزب الشيوعي و أطراف حزب البعث كانت عديدة وعلى قضايا مختلفة " الجبهة الوطنية التقدمية لم تكن للمشاركة السياسية و إنما كانت لقتل الأحزاب".
بينما رأى القيادي في حزب البعث الديمقراطي؛ إبراهيم معروف، أن حزب البعث الإشتراكي الحاكم قد ابتز المواطنين للإنتساب إليه كشكل من أشكال المصلحة واعتمد هذه الآلية من أجل سحب الجمهور من الأحزاب الأخرى، "حينما كثرت أعداد المنتسبين (لحزب البعث الإشتراكي) اتخذت سلطتهم تحت مسميات حماية الثورة والوطن دعوة منتسبيهم إلى مراقبة الناس من خلال كتابة التقارير عن الناس الذين يعيشون في وسطهم، مشعريهم بأنه من واجبهم أن يكتبوا التقارير؛ طبعاً ضمن اتهامات باطلة".
وعلى الرغم من ذلك اعتبر معروف؛ أن حزب البعث الاشتراكي لم يكن قائداً للدولة والمجتمع وإنما كانت الأجهزة الأمنية هي القائد الفعلي للدولة والمجتمع تحت إمرة حافظ الأسد.
بينما لفت محمد سيد رصاص خلال شهادته لـ "روزنة" أن الأحزاب السياسية أصبحت أحزاب منافع ولم تعد أحزاب جماهيرية، بينما يشير إلى أن حزب البعث الإشتراكي كان له دوراً أكبراً بين أعوام الـ 1970 وحتى الـ 2000، واختلف دوره بعد أن استلم قيادته بشار الأسد.
الانقلاب.. تصحيح أم عداء معلن؟
كرست الحركة التي أسماها حافظ الأسد في السادس عشر من تشرين الثاني في العام 1970 "الحركة التصحيحية"؛ تسلط حزب البعث العربي الاشتراكي على الحياة السياسية ومقدرات البلاد في سوريا، فالانقلاب الذي قاده حافظ الأسد على صلاح جديد ونور الدين الأتاسي، وادعى حزب البعث في وقتها أنها بداية عهد جديد لتقوية دعائم الدولة في إنهاء الصراعات الداخلية وهي التي رسخت سلطة دولة البعث، وفي أوائل عام 1971 انتخب حافظ الأسد رئيسًا لسوريا، ليعمل على توطيد سلطة البعث أكثر فأكثر.
بدأها من خلال تشكيل جبهة سياسية جمع فيها أحزاب عدة تحت سلطة البعث في عام 1972 تحت اسم الجبهة الوطنية التقدمية، فيما ينسب البعث أن من المنجزات لحركة الأسد التصحيحية هي حرب الأيام الستة مع إسرائيل عام 1973، بينما كرس حافظ الأسد السلطة المطلقة لحزب البعث الإشتراكي في حكم الدولة والمجتمع من خلال إنشاء دستور جديد لسوريا في العام ذاته (1973) حيث شكلت المادة الثامنة من الدستور آنذاك، تسلطاً مطلق الصلاحيات لحزب البعث الإشتراكي.
القيادي الشيوعي محمد سيد رصاص كشف من خلال شهادته لـ "راديو روزنة" أن صلاح جديد سقط أثناء انقلاب حافظ الأسد عليه؛ لأن جديد كان قد خرق الخطوط الحمراء عندما تدخل في الأردن (أيام أحداث أيلول 1970) مما جعل حافظ الأسد يلاقي تأييداً شعبياً في حركته (التصحيحية)، معتبراً في حديثه أن حافظ الأسد كان يملك دراية أكثر من صلاح جديد بالأجواء الإقليمية والدولية.
بينما أشار القيادي في حزب البعث الديمقراطي؛ إبراهيم معروف، أن التوصيف الحقيقي لعملية ما يسمى الحركة التصحيحية؛ هو انقلاب عسكري " كيف يمكن أن نصف عملية اعتقال رئيس الدولة والأمين العام للحزب وعدة قيادات سياسية من دون اتهام أو محاكمة".
وأما عما أسمته قيادة البعث الإشتراكي بأنها ثورة الثامن من آذار (1963) فقد رأها القيادي الشيوعي؛ محمد سيد رصاص، بأنها انقلاب عسكري ولّد ثورة؛ وأضاف " لقد جرى تغيير جذري في بنية سلطة النظام الحاكم آنذاك، وكذلك في طريقة الحكم وعلاقة السلطة بالمجتمع، لذلك يمكن وصفها أنها حققت إنقلاباً بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية وتمدين الريف وإنجاز الإصلاح الزراعي والتحول إلى رأسمالية الدولة بعيداً عن الرأسمالية التقليدية".
معتبراً بوجود ثورة اقتصادية اجتماعية آنذاك ولكنها بنفس الوقت ولّدت العديد من المشكلات التي عاناها المجتمع السوري؛ بحسب شهادة رصاص.