تقارير | 25 05 2020
بدأت الحكاية مع تفجير في السموات العليا وطائرة ركاب مدنية روسية أسقطت في شرم الشيخ، أودت بحياة أكثر من ثمانين قتيلاً هم ضحايا أبرياء بكل ما للكلمة من معنى بعيداً عن الدور السياسي لروسيا. انتقلنا بعدها إلى الضاحية الجنوبية في بيروت، معقل حزب الله، القاتل الثاني الأكبر بعد نظام الأسد في سوريا وخاصة منطقة القلمون. في الضاحية سيارتين مفخختين أدت لضحايا أيضاً هم أبرياء وبكل ما للكلمة من معنى مهما كانت قوة السرديات عن دور الحاضنة الشعبية لحزب الله في سفك الدم السوري واستباحته. الحكاية لم تتوقف هنا، قلب أوروبا ومن أقوى دول الاتحاد الأوروبي، فرنسا، عاشت ليلة دامية بسلسلة هجمات وتفجيرات أودت بحياة أكثر من 120 قتيلاً هم أبرياء وجداً وليس هنا أي سردية أو حجج معرفية ولا حتى إنسانية يمكن أن تقف بأدنى معنى أمام التعاطف مع هؤلاء الضحايا الباريسيين.
ثلاث أماكن في العالم، ثلاث جنسيات مختلفة للضحايا، ثلاث قارات حتى (آسيا – افريقيا – أوروبا)، والجاني واحد: داعش، وحش بادية الشام والمخلوق الخرافي الذي ولد في جوف حرب سورية أشرفت أعوامها الخمس العجاف على الانتهاء والدخول في سادس جديد. أسابيع قليلة شهد العالم فيها هجمات لم تسبق أن تكون بمثل هكذا تنظيم وشدة وتواتر واتساع من قبل، اللهم إلا هجمات الحادي عشر من أيلول، إن لم تكن على ذات السوية. فهناك افتراض عالمي اليوم أن أغلب الدول قد امتلكت تقنيات وأساليب حديثة لمكافحة مثل هكذا هجمات إرهابية وأنها اكتسبت خبرة منذ أيلول نيويورك الأسود، مما يجعل أية هجمات أخرى ذات بعد إرهابي تنظيمي عالي المستوى.
إذاً انفلاش دبابير داعش في قارات العالم قد بدأ، فمن حرض عشهم هذا بعد أن كان هاجعاً، لاطئاً في صحراء سوريا والعراق، منشغلاً بإعداد خلافته وتأسيس دور حسبته وجمع جزيته وبيع سباياه؟.
من الصعب علينا أن نرسم صورة واضحة للأسباب التي دفعت داعش أن تختار هذا التوقيت وهذه الأماكن لتكون قبلة لوجهة إرهابها، وإعلان جهادها على المستوى الأممي. لكن نظرة بسيطة إلى الخلف وأخرى إلى الأمام في السابق واللاحق القريب من الزمن قد تعطينا تلميحات عن الدّب الذي لعبت أصابعه في عش الدبابير هذا.
هذه الهجمات المتسلسلة والمتتالية، قد أتت تماماً في مرحلة وحقبة جديدة دخلها الصراع في سوريا. هذه المرحلة المتمثلة ظاهراتياً بتدخل قوى عالمية كبرى لدولة ذات مطامع ومطامح كونية، هي روسيا، بشكل مباشر وعلني في أواليات الصراع وبين أطرافه. هذه المرحلة التي أخذت ترسم فيها روسيا محددات جديدة لأطراف الصراع، من سيبقى ومن سيزول؟، فروسيا وكما هو معلوم خلال هذين الشهرين لتدخلها، انتهجت سياسة إعادة تصنيع و تشذيب لنظام الأسد وفق شكل أكثر مؤسساتياً عن المرحلة الإيرانية السابقة الميلشياوية الطائفية. روسيا من جهة أخرى أخذت تحاول فتح قنوات مع بعض الفصائل المسلحة التي هي في تضاد نوعاً ما مع نظام الأسد، لكنها ليست بتلك الراديكالية الإسلاموية التي تجعل روسيا نافرة من التعاون معها. من هذه الفصائل ظهرت قوات سوريا الديموقرطية والتي وإن كانت مدعومة كلياً من الاستخبارات الأمريكية المركزية والدول الغربية، إلا أن ما تروج له قنوات إعلام النظام والقنوات الروسية عن وجود قوات مثلها يمكن أن تشكل جسراً تتعاون بينه أطراف الصراع لمحاربة الإرهاب الأكبر المتمثل بداعش (وفق رؤاهم)، يؤكد أن هذه الفصائل ليست على علاقة مع شريك وحيد هو الغرب بل أيضاً السلطة القيصرية في موسكو تسعى لفتح العلاقات معه. من جهة أخرى فإن المرحلة الروسية كان لها بعداً باطنياً أبعد من وجهها الظاهري. إن التضمينات الي تولدت عن استهداف القوات الروسية للفصائل المسلحة المعتدلة والتي تقف في وجه الأسد وتتميز بأجندتها الإسلامية، ذات الحامل الوطني نوعا ما، وبنفس الوقت هي النقيض من داعش، هذه التضمينات التي توحي بأن روسيا والأسد وداعش هم عبارة عن حليف ضمني ووحيد في كواليس رجال الاستخبارات والمافيا الدولية التي لا تتبدى للإعلام أو الصحافة، أصبح من الرائج جداً اعتبارها والقول بها.
إذاً نظرتنا إلى الخلف تقول أن روسيا تريد تدعيم الأسد وتشذيبه، وتريد قوات معارضة على هواها، كالديموقراطية مثالاً، ولكنها ستضرب بيد من حديد على كتائب الثوار في الشمال، وتناغش وحش بادية الشام، حليفها الضمني في الكواليس، بين الفينة والأخرى.
من جهة أخرى إذا نظرنا إلى الأمام، فإن المرحلة المقبلة من عمر الصراع السوري يبدو أنه مليء بالتجاذبات والتقاربات والتسويات السياسية، دون أن تمنع استمرار آلات الحرب ومدافعها وطائراتها في دك المدنيين وأسواقهم، إلا أن فرزاً جديداً للخارطة سيكون هو الشكل الذي سيطبع ملامح المرحلة القادمة. وداعش هي الجوكر الذي رباه الدب الروسي من خلال حليفه القابع في دمشق على مدى خمس سنوات ونكزه الآن لتفوع دبابيره في الأرجاء. من هنا تأتي هجمات باريس وقبلها الضاحية وشرم الشيخ، ولا يغرنا مقولة أن الطائرة الساقطة كانت روسية وبالتالي لا أصابع للدب في تحريض العش، فكما هو معلوم يلدغ العقرب صاحبه الأقرب إليه. لقد فتح التدخل الروسي بوابة جهنم على سوريا، ومن ثم هز المستنقع الراكد في صحراء الشام، لتفوح قذارته ليس في شوارع دمشق بل في بيروت ومصر وباريس ومن يعلم أية شوارع أو مدن ستكون التالية على القائمة.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".