تقارير | 25 05 2020
ترى، لماذا تعجز (ترفض) المعارضة، ومثلها النخبة الثورية -بكل اختصاصاتها السياسية والفكرية والثقافية والفنية والعلمية..الخ- عن أن تعترف، بعد كل هذه السنين، بالواقع الكارثي لسوريا وللسوريين؛ والذي يتجلى في حقيقة سهلة على الإدراك، لا تحتاج لاستنتاج فلسفي؛ وهي أن عسكرة الثورة وأسلمتها، هما عاملان خدما النظام، وأعاقا التغيير.. بفضل تحول الموقف العالمي، عن دعم الثورة، التي سرعان ما كشفت له عن وجهها المعادي؟.
هذه الحقيقة الواقعية الماثلة، انكشفت مبكراً، عبر انقسام المعارضة، وتضارب مواقف أجنحتها وهلهلتها. زيادة على سيطرة الجهاديين عليها، وانقسامهم هم أيضاً، إلا على معاداة الثورة. الأمر الذي تمثل فوراً، بطرد علَم الثورة، وتعاونهم ضد عدو مشترك، تم تحديده بدلالته الدينية.
إحلال الطابع الديني، محل الطابع العلماني الجامع (إن وجد أساساً)، حوّل الثورة من أمل في التغيير، مبني على عملية قطع وتجاوز للماضي، عبر آلية حديثة للحكم، تقبر النظم الشمولية إلى تهديد للجميع، بسيف الصراط المستقيم، كما يحدده كل أمير لجماعته، تبعاً لموكّليه. الأمر الذي آل بالحال إلى ماهو عليه اليوم، كما تشهد سلسلة الانكسارات، بدءًا من معركة القصير، والتي كانت خسارتها خسارة محتمة لحمص -كما حصل- وصولاً لآخر الهزائم؛ دعكم (وهذا هو الأهم)، من الحال الكارثي الرهيب، الذي يتبدى في هول الويلات، الناجمة عن عدد الضحايا، وفنون العقاب الهمجي، وحجم الخراب، وآلام الناس..الخ. كنتيجة للمواجهات الدامية بين النظام والقوى المحسوبة على الثورة. أي بالشراكة بينهما، بغض النظر عن النوايا والتأويلات، التي تأخذ نفس التعبيرات لدى الجهتين المتحاربتين: فالهزيمة تكتيك، في حرب الكرّ و الفرّ.. والانكسار انتصار، يؤكده عجز الخصم عن إسقاطي. أما الواقع الحقيقي، فيترجم القول المأثور: "أرض المعركة تحصد أكبر الخسائر"!.
لو تخيل السوري نفسه، شخصاً غير سوري، وليكن مستشرقاً مثلاً (وهذه تهمة تقليدية، يُرمى بها كل خارج عن قناعات القطيع)؛ فعلى الأغلب، أنه سيجد نفسه أمام سؤال كاللغز، ملخصه: هل يعقل أن ذهنية السوريين -بالمعنى الجمعي- تقع تحت سطوة غريزة الموت. فتراهم يطلبون الشهادة (في سبيل الله، أو الايديولوجيا، أو النظام، أو الخوف مما هو أسوأ)، بدلاً من أن يفروا منه، حباً بالحياة وإنقاذاً لأطفالهم؟. ولكن هذا السؤال، يواجَه بسؤال آخر، كالجواب، يقول: إذا كانت أعداد الباحثين عن مهرب من الموت، في بلدان الجوار، أو في أربع أقطار الأرض، تجيب على السؤال الأول بالنفي؛ فمن، إذن، يمثل مقاتلو المعارضة، على الأرض؟ وتالياً، من تمثل المعارضة كلها؟ ثم لماذا لا تصدر عن السوريين تعبيرات تجيب عن هذا السؤال، وتحل إشكال التمثيل، فتعلن للعالم صورةً مختلفة عن السوري، تثبت جدارته في تقديم بديل عن النظام، الأمر الذي فشلت فيه المعارضة حتى اليوم؛ صورةٌ تتمثل في رفض السوريين الموت من أجل العقائد، واستعدادهم لعيش الحياة، على النمط الحيّ، بواقع تَقبُّل الاختلاف الطبيعي بين الناس في ظلّ القوانين الحديثة، التي تكفّ عن حشر العامل الديني في الشؤون الدنيوية؟، هل يدخل مثل هذا الاحتمال، فيما لو كان صحيحاً، في خانة المستحيل؟ أم أن تعذّره، يعزى إلى دافع الرفض، وهو الأخطر بين الدوافع الراخمة في عمق الذهنية السورية؟.
أعتقد أن هذا يغري الباحث، لقراءة تاريخ الممانعة، كخِلّة تميّز شعوب المنطقة -وشعبنا في المقدمة- بالتركيز على المرحلة التي بدأت مع الانتداب الفرنسي، حين ظهر السوريون، فجأة، بأنهم لا يتحملون الاستعمار دقيقة واحدة؛ وهم بالكاد تحرروا على يد الاستعمار ذاته، من احتلال امبراطورية همجية متخلفة، استكانوا قروناً طويلة، في "ظلالها المباركة"!.
لن أختم قبل محاولة الإجابة عن سؤالي، بخصوص صمت السوريين الحالي، عن التعبير المعلن برفض تدخل العقائد الشمولية في حياتهم، و تمسكهم بأن تكون حياتهم هذه ملك خياراتهم الحرة، على قاعدة فصل الأديان عن الدولة، وصياغة دستور حديث، لا يتضمن أية لاحقة مع اسم سوريا -عرقية كانت أم دينية- مكتفياً بالقول: إن كل ما يتصل بأمور التعبير عن الرأي، بات أمراً يسيراً على عموم البشر، في عصر الاتصالات. وما عاد يكلّف الشخص أكثر من امتلاكه لموبايل، يؤمن له الحد الأدنى من توصيل رأيه إلى مجموعة ما، في أي مكان على سطح الكوكب، للمشاركة في حملة ما، أو تسجيل موقف من خطة أو فعل. وهو ما يفعله الإرهابيون، بيسر ومهارة، لتنفيذ أعقد الجرائم، في قلب الدول العظمى.
الإجابة المحتملة، على السؤال الأخير، يمكن استخلاصها من موقف السوريين المعتاد، إذ يكتفون برمي مسؤولياتهم على الآخرين، واتهام العالم -الغربي خاصة- بالتآمر عليهم، حتى وهم يعيشون في أمان اللجوء على أرضه. بينما يرضخون لإملاءات الحكومة التركية، وتلاعب الممولين الخليجيين بهم -مكمَّمين بكمامة المال والدين- باحثين عن دلالات القول الحكيم، في كل مرة ينزل فيها ملاك الخارجية السعودية، بالآية ذاتها، على طاولات مفاوضات تخليص الذمة، و غسل السمعة، في الوقت الذي يتم فيه، بذل كل الإمكانيات، لحرق الربيع العربي، حيث تدور معركته الفاصلة، على أرض سوريا.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".