تقارير | 25 05 2020
أربعون عاماً ويزيد، مرت على سوريا وهي ترزح تحت حكم آل الأسد، وليس أي حكم، إنه حكم القبضة الحديدية والأجهزة الأمنية التي لا ترحم. أربعون سنة أو يزيد، حاول النظام فيها بناء دولة ومؤسسات، كما ادعى ويدعي إلى الآن بأنها لم تكن موجودة قبله. فمنذ أن كنا صغاراً و"طلائعاً للبعث"، لم يكتف أساتذتنا بحشو رؤوسنا بأقوال "القائد الخالد وأفكاره"، لقد أخبرونا أن سوريا كانت جحيماً قبله، وصارت نعيماً بعده. فهو من بنى المؤسسات والمستشفيات، وهو من مد خطوط الكهرباء والماء، وهو من فتح المدارس في القرى النائية وأطعم الفقراء، وهو من أسس جيشاً لدحر الصهاينة والأعداء، إنه "الأسد الذي عمّر البلد". هكذا قالوا لنا "سوريا الأسد"، ذاك العالم الجميل الذي خصص لنعيش فيه، لكن هل كانت تلك السوريا التي أخبرونا إياها بلداً يستحق الحياة كما قالوا؟
الآن بعد أربع سنوات ويزيد من عمر الثورة في سوريا، والحرب التي أخذت تأكل حتى أحلام الجميع، وتلقي بهم في البحر، تاركين البلد وما فيها للأسد ومن يحاربه، يبدو أن كل ما بني في "سوريا الأسد"، كان وهماً وكذباً ليس إلا. فهذا الجيش الذي أخبرونا أنه قد أسس لدحر الصهاينة والأعداء، لم يدحر سوى بيوتنا وأراضيا وأطفالنا في أقصى القرى النائية، وأصغرها حتى، هذا الجيش لم يكن سوى كذبة، غير مأسوفٍ علينا تحطيمها، وتلك المستشفيات التي تغنت بها احتفالات البيعة، مراراً وتكراراً، بتوفيرها أسرة مجانية للفقراء، تبين الآن أنها لم تكن سوى معتقلاتٍ من نوعٍ أخر، يقيدوك فيها بحديد السرير بدل حديد الزنزانة، هذه المستشفيات لم تكن سوى كذبة أخرى، غير مأسوف علينا تحطيمها. وحتى المدارس الجميلة، والمزركشة بأعلام البعث، وصور القائد الخالد، وأحصنة ابنه الباسل، وابتسامة البشار، لم تنجب إلاً أجيالاً مشوهة من سلطة القمع والذّل واستلاب الكرامة، أجيالاً لا ندري إن كانت قادرة بعد اليوم على أن تبني سوريا ثانية مختلفة عن الكذبة التي عاشت في شرنقتها لأربع عقود كاملة، أيضاً هذه المدارس غير مأسوف علينا تحطيمها.
لا مؤسسات ولا دولة بالمعنى الحقيقي في "سوريا الأسد"، جلّ ما هناك عبارة عن حجارة وأسمنت بنيت على شكل مستشفيات ومدارس ودور قضاء وثكنات جيش، وداخلها لا شيء سوى جوفٌ فارغ إلا من الكذب. فهل نأسف على ضياع الحجر، بعد أن مات البشر! قد يكون المنطق الاقتصادي يفرض علينا ذلك قدر المستطاع، لكن ما العمل إن كانت البراميل والحاويات لا تكف عن الهطول فوق رؤوس العباد، أينما كانوا في مدارس أو مستشفيات أو دور قضاء.
بعد كلّ هذا الموت الذي تكشف لنا، لم تكن سوريا تلك سوى كذبة أجبرنا على العيش فيها لطوال أربع عقود، ونحن واهمين أو حتى مدركين لها. ما ذهب وضاع لا مأسوف عليه حتماً. الأسف علينا إن لم نكن قادرين بعد الحرب على البدء من جديد، بحياة جديدة لأطفالنا في مدارس جميلة ومزركشة بصورهم هم لا بصور القادة والأمراء، ومستشفيات جديدة ليس فيها سلاسل وأصفاد، وقضاء وجيش يحمي الحدود والبيوت، لا يلقي عليها البراميل والموت، هذا ما يعقد عليه الأمل، أن تكون سوريا المستقبل عيشاً ضمن الحقيقة لا الكذبة.
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".