تقارير | 25 05 2020
سأقدم بسؤال: هل تتوفر عوامل قاطرة حرية في الجنوب، على يد قوى وفعاليات ونشطاء، يفيضون عن الانتماء الجغرافي، في جبل العرب "معقل طائفة الموحدين الدروز"، على غرار تلك التي شرعت بها قوى ديمقراطية كردية، في الشمال؟ لن أدعي معرفة الجواب، ولكنني أخشى - بل أعترف بكل صراحة - أن قراءتي تنتهي بمماثلة مصير الحراكين، بل ومصير أي حراك آخر، ينشد الحرية والمساواة.
فمن أهمل كل البوادر السورية التحررية السابقة، وفرّط بالتغيير، لن يكون غريباً عليه أن يهمل الحراك الجديد، في شكله الحاليّ، وفي تطوره المحتمل، إن حصل. ولعلّ المثال الأبرز، في حجمه ودلالاته، هو الحراك الكردي، الذي ووجِه بالتجاهل، ولم ينل حظاً من التشبيك، أفضل مما لقيته مبادرات حقوقية، لعلمانيين أفراداً، كان مصيرها التجاهل الفظّ، إن لم نقل القتل العمد.
وأكثر من هذا أن أوساط المعارضة، دأبت على إقصاء المختلف "من باقي الطوائف"، لتنظّف الحراك من السوريين غير السنة "الأغلبية"، لتفعل ما تتهم النظام به. ولقد تضافرت جهود المعارضة على النبذ، على نحو شبه منظّم، كانت كافية لإسقاط النظام، لو بذلت على صعيد توحيد أطياف المجتمع، في معركة المساواة، وتحييد الدين. من هنا التقى العنف الجهادي، الجاري على أرض الواقع، مع الجهاد المثيل، في الواقع الافتراضي.
وكما صوّبت سهام اتهام الحراك الكردي بصنوف سموم الاستعداء، التي وصلت حد العداء الصريح له، بتخوينه وتحميله مسؤولية تهجير السكان العرب، من قراهم الداخلة ضمن المناطق ذات الأغلبية الكردية، مع أن التهجير كان يحدث للكرد والعرب، معاً، هرباً من القصف الوحشي لكل من النظام و"داعش"، ولكن حتى لو حدثت حالات واقعية، في تلك القرى، كان لمعارضة وطنية - محلّ ثقة المواطنين قاطبة - أن تتداركه، و تضع له الحل الذي يتضمن رسائل تنال قبول باقي مكونات المجتمع السوري.
بينما أجاد النظام الخطاب والعمل، مع الكرد، فغفر له بعضهم وحشيته، مقابل رشوته لهم بإطلاق أيديهم في إدارة شؤونهم المحلية، بينما اتسعت مساحة الشرخ، بينهم وبين المعارضة المتأسلمة والمتطيّفة، والتي لم ينقذ سمعتها المتردية، وجود مقاتلين من بقايا الجيش الحر، شاركوا القوات الكردية، في عدة معارك ربما تكون أهمها معارك تحرير كوباني/ عين العرب. ذلك أن الحساسية القومية، كانت تتوجع تحت إهانات الجيران لهم بتشويه التاريخ، وتزويره لتحقيق مكاسب قومية، ونوع من الاستقلال على أرض هي سوريةُ التاريخِ وعربية الهوية..إلخ.
ومع أن تلك الاتهامات المهينة، كانت تقوّي وتزيد في عدد الراغبين بالاستقلال الواقعي عن السيادة العربية، فقد كان أصحابها ذاتهم يتغنّون فخراً، بتعايش خليط القوميات والأثنيات بوئام وسلام، "بما يتيح لنا الوصول إلى مفهوم المواطنة الحقيقية في الدولة المدنية المنشودة التي يتساوى فيها الجميع دون النظر إلى انتماءه القومي والطائفي في الحقوق والواجبات."(*)؛ إلا أنهم لم يرفعوا شعاراً واحداً، في أية مظاهرة، ولم يتقدموا بأي مشروع، أو برنامج، يرسم نموذجاً لدولة المساواة، التي بالضرورة تفصل الدين عن الدولة. بل أن العكس، تماماً، هو ما طبَع مآخذهم على الكرد، بأنهم كانوا يعطلون اجتماعات المعارضة السوربة، بتركيزهم مثلاً على "ألا يكون ضمن الجيش الحر أي من الكتائب الإسلامية". على اعتباره يمثل "استفزازاً لمشاعر السوريين، في الوقت الذي يقدم فيه أبناء سوريا الشهداء بالآلاف في سبيل مطالب تنسجم مع مطالب المجتمع المدني"(**).
فأي مجتمع مدني، ذاك الذي يرتبط بمنظمات إرهابية، ترفض كل ماعدا الدولة. كل هذا، ناهيك عن الغمز المستمر، من قبل جمهور المعارضة - بشحن ومباركة النخبة الثورية - من عدم استهداف النظام لمناطق الكرد بالقصف "التهمة نفسها لمناطق الأقليات"، بل وتحميلهم مسؤولية استخدام مواقعه العسكرية، في أراضيهم، لقصف القرى الآهلة بالأغلبية "السنة".
أما الفضيحة المدوّية، فكانت في توعّد النخبة الفاسدة تلك للكرد باجتياح داعش لمناطقهم، وسيطرتها عليهم، ما أن يكفّ الأمريكان عن حمايتهم "ولقد احتفل البعض بهجوم داعش الارتدادي لكوباني، يوماً، غاب فيه طيران التحالف من سمائها!". لقد بدت ثقافة الشتم، مبدئاً جامعاً لجمهور المعارضة - المتعلم بخاصة - وحّد معاناة الكرد، مع باقي الأقليات - الأقل تشدداً دينياً - على يد المعارضة امّسخت إلى تمثيل الأغلبية الطائفية.
ولم يكن أشدّ وقعاً من تعميم الاتهام على جماعة بشرية ما، إلا الشتم الذي ينال من الشرف، وهو السلاح الأمضى في الثقافات الشرقية، وخاصة بين العربان، فمن "أولاد المتعة"، إلى "ابن أمه"، إلى الشتم باستخدام العضو التناسلي للمرأة - أماً أو أختاً - والهزء ممن يتأسف على الأنماط الذي كانت أخته تعود للبيت، آخر الليل، في وضعَنا وجهاً لوجه مع خطاب شبيحة ثورة، كرر خطاب شبيحة النظام: "بدكن حرية"!؟
إن كل ما سبق، كان يعني خلوّ سورية "الثورة" من أرض خصبة، تصلح لاستنبات و ازدهار الدعوة التي تفرّد الكرد بها - على مستوى المكونات السورية - عبر إصدارهم مرسوماً، مستمد من منظومة حقوق الانسان.. يحدد المساواة بين الرجل والمرأة، ويشمل سلسلة من الحقوق، بدءاً بمنع تزويج المرأة قبل بلوغها سن الثامنة عشر ودون رضاها، وانتهاءً بشروط العمل والأجور التي تحتّم تساويها في الحقوق مع الرجل، ومروراً بضمان حصولها على إجازة للأمومة حتى طفلها الثالث، ويدين المرسوم أيضا "جرائم الشرف" و"العنف والتمييز" ضد النساء، كما أنه يمنع تعدد الزوجات. و يكفل للمرأة الكردية السورية حقاً مساوياً لحق الرجل في الميراث..الخ.
إلا أنه من الصعب الجزم، بوجود أو عدم وجود رغبة مماثلة لدى باقي أطياف المجتمع السوري، وما الذي يحول بينهم وبين التصريح بها. خلاصة الدرس القاسي، أن سقف التوقعات أدنى بكثير من المأمول. أما سقف الآمال، فقد مال، مع إفساد الثورة بالمال. وانهار نهائياً بتسليط الجهاديين عليها. فهل من العقل، توقّع المعجزات من المتلهفين للحرية، في جبل العرب، أو حتى في باقي المناطق الصامتة حتى الآن، ومنها جبال الساحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)، (**) مهند الكاطع- الحركة الكردية في سورية.. ماضي وحاضر- الحوار المتدن-23/7/2013
*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".