تقارير | 25 05 2020
رنّ جرس الهاتف، إنّها التاسعة صباحاً من يوم الخميس، كانت وزارة الخارجيّة التركية - دائرة شؤون الشّرق الأوسط!!، صوت حزين من امرأةٍ تتحدّث اللهجة السوريّة:
صباح الخير أستاذ فاروق، نتمنى، أنْ تكون بخير، وأنْ تكون قويّاً، رحم الله أخاك، إنّها مصيبة كبيرة، تألمنا بها، ونشاركك حزنك (تقول موظفة في الخارجيّة التركيّة)، وتابعت: يؤسفني أنْ أخبرك بأنّ جثمان أخيك سيصل إلى مطار أورفا في الساعة الثامنة والربع من صباح يوم الجمعة، ونتمنى أنْ تكون هناك لاستقبال أخيك.. وإنْ حدث أيّ طارئ، فلا تتردّد، وأخبرنا كل ما هو مستجد.
قبله بيومين اتصلت بي السّيدة ذاتها، وأطلعتها على المعلومات اللازمة، أرقام الهواتف، عنوان إقامتي.. خبر وصول الجثمان أحدث مشاعر غريبة، ربّما خفّف قليلاً من الحزن القابع في صدري منذ اللحظة التي غاب فيها نزار عن صفحاته للتواصل الاجتماعي واتصالاته، وانتشار خبر وفاته، بينما كان في رحلته الشّاقة إلى أوروبا، بحثاً عن فرص الحياة، وإتمام تعليمه هناك، بعد أنْ ضاقت به الدنيا هنا، في بلاد الدم "سوريا".
قد يكون نقل الخبر من وزارة الخارجية مجرّد تأدية وظيفة، وتلبيّة لطلب من وزير الخارجيّة نفسه ورئيس دائرة الشؤون في الشرق الأوسط، لكنّهم خفّفوا عن كاهلي حملاً لا أقوى عليه، فبعد أنْ تدخّل شخص كُردي تركي و الممثّل الشّخصي للرئيس مسعود البرزاني لملف كرد سوريا "الدكتور حميد دربندي"، قد يكون نبأ وصول جثمان أخي نزار حجي مصطفى، الذي ربيته وحضنته كثيراً وعاركته أيضاً حتى يستقيم في الحياة العامة والخاصة، وفي علاقاته مع الآخرين، وعلّمته كيف يكون فرداً من أسرة كبيرة، نقل الخبر بالنّسبة لي شكّل صدمةً كبيرة، ووضعني في موقع القبول بالحقيقة، في الوقت الذي كنت أرفض تقبّل هذه الحقيقة، وأنتظر أنْ يطلّ لي نزار من جغرافيّة أخرى، أو يتصل بي نزار ويخبرني بأنّه وصل إلى بريطانيا التي كانت بمثابة حلم له، أو أحدٍ ما يخبرني بأنّ أخاك في مشفى ما بهنغاريا يتلقي العلاج، لكنّه يعجز عن النطق، أو يراسلني برسالة ماسينجر، ليقول لي: أستاذ أنا بخير.. لا تقلق.
قبل يومين اتصل بي كاك عكيد من هنغاريا ومن بعده كاك عسكر، وهو رجل أعمال كُردي من كُرداغ، كلّف نفسه ليقف إلى جانبي في كل شيء، والشخصان أفادا: بأنّ نزار (جثمان نزار)، سيصل إلى أورفا في صباح الجمعة، وسرعان ما تبدّد الحزن قليلاً، وحلّ مكانه أملَ صغير بعودة نزار سالماً من جديد، قلت لنفسي: مضى وقت، بعد يومين، ربّما يطلّ علينا نزار، وربّما ذاك الجثمان لايكون هو، وربّما عينا كاك يوسف وكاك سيبان خانت عقليهما، بعد أنْ شاهدا الجثّة وقالا: إنّها تعود لنزار، والأخيرين حسب اعتقادي، أتيا من ألمانيا، لمتابعة خبر اختفاء نزار في الشريط الحدودي بين صربيا وهنغاريا، تحديداً في مدينة سجد (المجريّة)، رغم أنّ كاك سيبان أقسم كثيراً أنّه تأكد من وفاة نزار، إلّا أنيّ لم أصدقه، ولازلت حتى الآن أتهرّب من حقيقة وفاة نزار "الحالم والناشط"، الذي أردت منه أنْ يكون فاروقاً بعد وفاتي.
خمسة عشر يوماً، لم يغب نزار الغالي عن بال العائلة، والكثيرون من أفراد العائلة يجالسون نزار ويحاورونه، وأنا شخصيّاً، لم يغب لحظة واحدة، طيلة هذه الفترة، في المجالس وعند زيارات الأصدقاء، نتحدث عنه عن مناقبه وحماسه وصفاته، وعلى المائدة، التي لم نرغب بها أصلاً، نستحضر نزار، ونتذكّر كلماته، وكيف كان يرفض هذا النوع من الطعام ويقبل بآخر، وكيف كان يقوم من المائدة، ويطلب الشاي، كيف كان يمازح فاروقنا الصغير. وعند زيارة زملائه لا أستطيع الكفّ عن البكاء، وغالبا كنت أتجنّب الردّ ع الهاتف خاصة لمن كان يشاركني ذكر نزار.
في أحلامي لايغيب أبداً، فلنزار حضورً قويّ، إنْ غفت عيناي قليلاً، فهوحاضرَ في عقلي الباطن، وفي كلّ تفاصيل حياتي، وللحديث عن نزار الروح في مناماتي كلام كثير.
في انتظار نزار، لا نريد أنْ يكون هو.. نريد أن يطلّ علينا من جهة أخرى، ليقول لنا: أنا بخير.. وا..أسفاه!