تقارير | 25 05 2020
بعد نجاح الوحدات الكردية، وكتائب "الجيش الحر" المتحالفة معها، في تحرير مدينة تل أبيض والقرى المحيطة بها، وطرد مقاتلي "الدولة الإسلامية" منها، افتُتح فصل جديد من الشقاق الكردي – العربي، على خلفية اتهام القوات الكردية بتهجير السكان العرب والتركمان من المنطقة.
تصاعدت حدّة الشقاق وتداعياته مع قيام "الدولة الإسلامية" بتهجير الأكراد لقاطنين في مدينة الرقة "عاصمة الخلافة"، وكذلك بعد المجزرة المروعة التي ارتكبها مجاهدو البغدادي في مدينة كوباني/عين العرب. فطغت على ردود الأفعال العربية والكردية سمات التعصّب والشوفينية و"شيطنة" الآخر، وانضمّ نشطاء و"مثقّفون" من الجانبين إلى جوقة العنصرية والكراهية تلك.
الجميع ضد الجميع!
"حفلة الكراهية" هذه ليست الأولى من نوعها بين "مكونات" المجتمع السوري خلال السنوات القليلة المنصرمة. فمنذ ربيع 2011، لم يتوقف يوماً حديث "الأقليات" و"الأكثرية". اختلفت مناسباته بحسب الحدث، وتنوّعت غاياته، تبعاً لمرامي المتحدث وانتمائه ("الأقلوي" أو "الأكثروي")، وكذلك باختلاف "الأقلية" موضوع الحديث. في الغالب، سادت لغة التحريض، والاتهامات والاتهامات المضادّة، ومحاولة كل فريق نفيها، في إطار من سوء النوايا والمخاوف المتبادلة.
ورغم استثناءات محدودة، تتمثّل في أصوات فردية من مختلف "المكونات"، كان الثابت في مواقف الجميع من الجميع هو "التحامل"، حيث يتمّ انتقاء وقائع معيّنة والتركيز عليها، والتعامي عن حقائق ووقائع أخرى بشكل متعمّد، بغية إضفاء صورة نمطية على مجموعات بأكملها. والتحامل يؤدّي إلى النظر نحو أفراد جماعة معينة ككتلةً صمّاء، ثابتة الجوهر، متماثلة العناصر. فهو، كموقف عاطفي انفعالي حيال فئة معينة، يقود إلى سوء التقدير، وإطلاق أحكام جامدة، قطعية وغير عقلانية.
الأمثلة أكثر من أن تُحصى؛ فمن تحميل "العلويين" مسؤولية فظائع النظام، إلى وضع "المسيحيين" في خانته، ومروراً باتّهام "الدروز" و"الإسماعيليين" بتذبذب موقفهم حيال النظام والمعارضة معاً، وصولاً إلى التشكيك المستمر
بسوريّة "الأكراد"، ثم اتّهام هؤلاء جميعاً لـ"السنة" بالتكفير والإرهاب. يترافق ذلك كله مع حملات تراشق لفظي في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وغالباً ما تتزامن مع تراشق ناري على أرض الواقع. هكذا، غدا "منطقياً" تداول "تحليلات" وخرائط مفترضة لتقسيم قادم لا محالة، سيفتّت سوريا على أسس عرقية ودينية ومذهبية.
التقسيم وحقائق الديموغرافيا
ثمة، بالفعل، على الأرض نوع من توزّع السيطرة وسلطات الأمر الواقع بين القوى المتحاربة، ربّما يُبنى عليه نوع من تقاسم مناطق النفوذ بين القوى الإقليمية المساندة لأطراف النزاع، استناداً إلى خطوط القتال الثابتة نسبيّاً. هذا ما أشرنا إليه غير مرّة كصيغة محتملة لتجميد الصراع إلى حين التوافق على تسوية شاملة. غير أنّ هذا مختلف عمّا يذهب إليه بعضهم من استسهال الحديث عن التقسيم، في تبسيط يفتقر إلى الدقة، ويقفز على حقائق الديموغرافيا والتوزع السكاني على امتداد الجغرافيا السورية. فجميع المحافظات السورية بلا استثناء "مختلطة"، ولا يمكن على الإطلاق الحديث عن مساحات واسعة من الأراضي السورية المأهولة متصلة و"صافية"، ما سيجعل من الصعب إيجاد كيانات متجانسة قابلة للاستمرار.
وفيما يلي تقديرات وردت في دراسات عدة تناولت "فسيفساء" التركيبة السورية المعقدة. ثمة اختلافات طفيفة بين دراسة وأخرى لكنّ التقديرات تبدو متقاربة رغم الفارق الزمني بينها:
جاء في كتاب "المجتمع والدولة في الوطن العربي"، (مجموعة مؤلفين، مركز دراسات الوحدة العربية 1988): "العرب السنة 65 بالمئة من السكان. يليهم العلويون 12 بالمئة، والمسيحيون بمختلف طوائفهم 8 بالمئة، وكلاهما عرب ثقافة ولغة. ثم الأكراد بنسبة 8 بالمئة وهم مسلمون ديناً وسنّة مذهباً، إلا أن لهم لغتهم وثقافتهم الكردية. يليهم الدروز 3 بالمئة، وهم عرب مسلمون ولهم مذهبهم الديني الخاص. والأرمن 3 بالمئة، وهم أقلية مسيحية دينية ولغوية وافدة في العصر الحديث من بلادها الأصلية في أرمينيا. كما توجد جماعات إثنية أخرى وتشمل الشيعة الإثني عشرية، والشيعة الإسماعيلية، واليزيدية".
وبحسب نيقولاوس فان دام، في "الصراع على السلطة في سوريا" (مكتبة مدبولي 2004): "82,5 % يتحدثون العربية، و 68,7 مسلمون سنة. السنة الذين يتحدثون العربية 57,4 من مجموع السكان. وأكبر الأقليات الدينية العلويون (11,5 %) والدروز (3 %) والإسماعيليون (1,5 %) والمسيحيون الروم الأرثوذكس (4,7%)".
وفي "تاريخ سوريا المعاصر"، (كمال ديب، دار النهار 2011): "بلغ عدد الجماعات المذهبية 16، السنّة [عرب وأكراد] 75 بالمئة، يليهم العلويون 12–15 بالمئة، ثمّ الروم الأرثوذكس 5 بالمئة فالدروز 3 بالمئة، ثمّ بقيّة الطوائف المسيحية من موارنة وروم كاثوليك ولاتين وبروتستانت وسريان. إضافة إلى الإسماعيليين، وأقلية صغيرة من الشيعة الإثني عشرية واليزيديين. وبلغ عدد المسيحيين 12 بالمئة. على الصعيد الإثني بلغ عدد الإثنيات خمساً: عرب وأكراد وأرمن وتركمان، وسريان/آشوريون وشركس. الأكراد 8 بالمئة من عدد السكّان، الأرمن 3 بالمئة، والتركمان والسريان والآشوريون والشركس أقليات صغرى".
لا بديل عن المواطنة
في ضوء ما سلف، تمسّ الحاجة إلى فهم المجتمع السوري بمنهجية علمية، تبتعد عن التعميم والانحيازات المسبقة، فتُقارب الواقع من زواية نظر ترى إلى التنوع المجتمعي كعامل دفع، لاعامل كبح للمشروع الديمقراطي، نظراً لما تحمله "الجماعات" المختلفة من مصالح متباينة. فالصيغة الديمقراطيّة/ العلمانية، هي الصيغة المثلى لضمان حقوق الجميع، فلا يكون فضل لهذه الجماعة أو تلك عن غيرها. وإنّ علمنة الدولة وتحريرها من سلطة الدين والأيديولوجيا هي السبيل الأوحد لتأسيس مجتمع مكون من مواطنين أحرار متساوين انطلاقاً من مبدأ المواطنة.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "روزنة".