مدونات | 18 06 2025

تكررت خلال الفترة الأخيرة التصريحات الصحفية التي أصدرها بعض رجال الدولة المقربين من وزير الاقتصاد السوري، خاصة ما يتحدث عنه مستشار أول لوزير الاقتصاد الدكتور مازن ديروان، فعبر صفحته الشخصية على الفيس بوك طرح خيار بيع القطاع العام بشكل كامل، لأنه على حد وصفه يشمل شركات مفلسة ولا يمكن إصلاحها أبدا، ثم عاد عبر لقاء صحفي في أحدى القنوات الشهيرة ليعيد طرح فكرته هذه، ولكن يعود الدكتور ديروان ليؤكد أن هذا الطرح هو رأي شخصي له، ويأمل على حد تعبيره أن تستمع الحكومة له وتقوم بتطبيقه.
من طبائع التاجر انه يفكر دائما في تعظيم ثرواته بغض النظر عن الطريقة التي يمكن ان يتبعها لتحقيق ذلك، وهذه فطرة الانسان على كل حال، احدى هذا الطرق رفع الاسعار مثلا لتعظيم الأرباح، خلال ستينات القرن الماضي انتبه العالم الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد "جون ناش" لذلك وقام بوضع نظريته الأشهر "نظرية الألعاب" أو "Game theory"، تقوم النظرية على افتراض أن يقوم مجموعة من المصنعين لمادة معينة على الاتفاق بالبيع بسعر معين وعدم منافستهم لبعضهم البعض سعرياً ، وبذلك يضمن هؤلاء التجار تحقيق مكاسب كبيرة وحصة سوقية جيدة دون الحاجة لتخفيض أسعار منتجاتهم بغية الحصول على حصة سوقية اكبر، طبعاً هذه النظرية فيما بعد كانت الأساس التي بنيت عليها اتفاقيات التجارة العالمية حالياً، وأوقفت حروب تجارية لا نهاية لها.
هذه القصة التي رويتها تعطينا درس مهم أن غاية الإنسان هو الربح، فبالنسبة للمنتج يريد أن يبيع بضائعه بأعلى سعر ممكن، وبالنسبة للمستهلك يريد أن يشتري حاجياته بأقل سعر ممكن، إذا كيف يمكن أن يحصل هذا التعادل. باختصار هي عبارة عن لعبة كما عبر عنها "ناش"، فالمنتج لن يرفع سعره إذا علم أن هناك منافس له في السوق يستطيع أن يبيع نفس منتجه وبنفس الجودة بهامش ربح أقل، وبالتالي يخسر الأول جزء من حصته السوقية ليربح الثاني الحصة الأكبر. يمكن أن يؤدي ذلك فيما بعد إلى توافق الاثنان على البيع بسعر متوسط بينهما ليحافظ كل منهما على حصته السوقية، وتصبح مصلحة المستهلك آخر ما يفكر به الاثنان.
لنعد الآن إلى موضوعنا الأساسي، ماذا يحصل إذا ما قامت الحكومة ببيع كامل للقطاع العام كما طلب الدكتور ديروان، تفقد الحكومة سلطتها بشكل كامل على التحكم في الأسواق، ويصبح مصير المستهلك بشكل كامل بيد مجموعة من التجار الذين غايتهم الأولى والأخيرة هي الربح. ناهيك عن ارتفاع معدل البطالة نتيجة التسريح الجماعي للعمال العاملين في المؤسسات العامة، مثل ما حصل في روسيا خلال تسعينيات القرن الماضي عندما قامت بخصخصة بعض القطاعات خلال فترة زمنية قصيرة مما أدى إلى ارتفاع نسب البطالة وعمت الاحتجاجات أرجاء البلاد. كما أن الخصخصة الكاملة ستؤدي بكل تأكيد إلى زيادة التفاوت الطبقي الاجتماعي على المدى البعيد، حيث ستتركز الثروات بيد فئة قليلة من رجال الأعمال، وعلى المدى الطويل ستكون الأجيال القادمة غير قادرة على منافسة الكيانات الاقتصادية الضخمة التي ستنشأ نتيجة امتلاكها لشركات ومؤسسات مفصلية في البلد.
يجب التنويه هنا أنني لا أدعو إلى تطبيق الاشتراكية الاقتصادية والتدخل الحكومي في الأسواق، بالطبع لا أنا بالتأكيد أدعم السوق الحر ومؤمن تماما أن المنافسة الحرة هي الكفيلة بتعديل الأسعار وتخفيضها لمستويات عادلة، ولكن التجارب الاقتصادية في العديد من الدول أبرزت لنا تشوهات عديدة من خلال اتفاق التجار فيما بينهم على توحيد سعر سلعة معينة دون النظر إلى نسبة الربح هل هي عادلة للمستهلك أو أنها مجحفة!، لذلك يجب على الحكومة أن يكون لها يد في الأسواق عبر مؤسسات تابعة لها ومعامل تملكها ومنتجات تطرحها، لتكون طرف في لعبة التجار و تصطف بجانب المستهلك وتدافع عن حقوقه عبر تخفيض هامش الأرباح لمستوى عادل لجميع الأطراف، ومنع الشطط في تعظيم الأرباح. باختصار أنا أدعو إلى أن تكون الحكومة طرف في هذه اللعبة عبر معاملها ومؤسساتها، لا أن تلعب دور الشاهد فقط.
طبعا لفت الدكتور إلى نقطة مهمة، وهي تهالك مؤسسات القطاع العام وقدمها، وأن الدولة يمكن ان تتكبد مبالغ كبيرة جدا لإعادة تأهيل هذه المؤسسات، إذا هل برأي الدكتور أن شركات القطاع الخاص ستقوم بالاستثمار في مؤسسات ميتة على حد تعبيره!، وهنا مربط الفرس، كيف يمكن للحكومة السورية أن تبيع مؤسساتها المتهالكة حسب وصف الدكتور وهي على هذه الحال، طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار الوضع الأمني المتردي وضعف القوة الشرائية في البلاد، إذا لن تستفيد الحكومة من بيع هذه المؤسسات لأن لا أحد سوف يدفع مقابلها المبلغ المالي العادل الذي سوف تستخدمه الدولة لدعم قطاعات أخرى كما يقترح الدكتور ديروان.
يمكننا النظر إلى تجارب العديد من الدول التي مرت بظروف مشابهة نوعاً ما لظروف سوريا الحالية، وسنجد أفكارا أكثر ابداعية لتحقيق التنمية الاقتصادية وإعادة الحياة لمؤسسات القطاع، وبمشاركة القطاع الخاص مع القطاع العام.
بالنظر إلى تجربة أذربيجان في إقليم كاراباخ بعد تحريره من الاحتلال الأرميني الذي دام 26 عاماً، كان الإقليم يعاني من دمار شامل وضعف في البنية الرقمية والمهارات المهنية، إضافة إلى بطالة مرتفعة، خصوصاً بين النساء النازحات (70% في عام 2021.
اعتمدت الحكومة الأذربيجانية نموذج "المدن الذكية" كإطار لتطوير البنية التحتية والخدمات، مستندة إلى شراكات بين القطاعين العام والخاص (PPP) لتنفيذ عدد من المشاريع الحيوية. شملت هذه المبادرات تدريب النساء على المهارات الرقمية، وتعزيز تقديم الخدمات الإلكترونية، وجذب استثمارات خاصة في مجالات البنية التحتية، إلى جانب الاستفادة من الخبرات التقنية والفنية التي يمتلكها القطاع الخاص. وقد حققت هذه التجربة نجاحاً نسبياً، لا سيما في تمكين الفئات الضعيفة وتعزيز مسار التنمية الرقمية. ومع ذلك، ما زالت تواجه تحديات مرتبطة بالحوكمة الرشيدة وضمان استدامة المشاريع على المدى الطويل. أما في السياق السوري، فإن تطبيق هذا النموذج يبدو مناسباً في عدد من القطاعات الحيوية مثل الصحة، والتعليم، والنقل، والطاقة، خاصة في ظل الحاجة إلى تطوير الخدمات وتقليل العبء المالي عن الدولة من دون المساس بدورها الرقابي والتنظيمي.
كما يمكننا أن نستفيد من تجربة تركيا بناء مطار إسطنبول الجديد وغيرها من مشاريع في مجال الطاقة والنقل، وذلك عن طريق نظام العقود BOT، والذي يعني أن تتولى شركة خاصة بموجبه مهمة إنشاء وتشغيل المشروع خلال فترة زمنية محدد. في سوريا أن معظم عقود الاستثمار التي أبرمتها الحكومة الحالية في القطاع السياحي تتبع هذا النظام بالذات، كما أن هناك بعض العقود التي وقعتها الحكومة بالفعل لتشغيل مينائي اللاذقية وطرطوس مع شركات خاصة بنفس هذا النظام.
أيضا هنالك تجارب ملهمة في الأردن ولبنان في تبني نظام عقود الإدارة والتشغيل في تطوير القطاع الصحي، فمن خلال هذا النوع من العقود تقوم الحكومة بتعيين شركات من القطاع الخاص لإدارة وتشغيل مؤسسات القطاع العام لفترة محددة، وذلك مع احتفاظ الدولة بملكية الأصول.
لا يوجد نموذج واحد للخصخصة يناسب جميع القطاعات والظروف في سوريا. لذلك يجب اعتماد نهج متوازن ومتدرج يأخذ في الاعتبار خصوصية كل قطاع وأهميته الاستراتيجية والاجتماعية. كما يجب أن يسبق أي عملية خصخصة إصلاح الإطار القانوني والتنظيمي وبناء القدرات المؤسسية اللازمة للإشراف على العملية وضمان تحقيق أهدافها.
إن الخصخصة ليست شراً مطلقاً، ولكن طرحها كحل وحيد هو طرح تبسيطي لواقع معقد. الخصخصة الكاملة تعني، فعلياً، انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي والاقتصادي، وتسليم زمام الأمور لفئة ضيقة من المستفيدين.
في المقابل، تُتيح نماذج مثل PPP وBOT فرصاً متوازنة للنمو وإعادة التأهيل، دون خسارة الدولة لسيادتها الاقتصادية أو تعريض المجتمع لمزيد من الأزمات. على الحكومة السورية أن تبحث عن حلول وسطية أكثر واقعية، تنطلق من المصلحة العامة وتضع المواطن في صلب معادلة التنمية.
ختاماً يجب علينا قبل اتخاذ قرار خصخصة أي قطاع من قطاع الدولة، وقبل اختيار نوع العقد الملائم لهذه القطاع، لا بد لنا من دراسة البعد الاجتماعي لهذه القطاعات، ومدى التأثير الاجتماعي والاقتصادي في حال خصخصتها، كما يجب ضمان حقوق العمال والفئات الضعيفة، وسن القوانين التي تحميهم وتحمي أيضاً أرباب العمل، فذلك أدعى للعدل والإنصاف والذي إذا ما تم ستتحقق التنمية.
هذه المقالة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة موقف أو رأي مؤسسة روزنة.