مدونات | 22 05 2025

في المجتمعات التقليدية والشرقية، غالبًا ما تُصبح مفاهيم النقاء الأخلاقي هي الركيزة التي يُبنى عليها نظام التقييم المجتمعي لأفراد هذه المجتمعات. وقد لا يعني "النقاء" بالضرورة القيم الإنسانية كالرأفة، والكرامة، والعدل، أو الأخلاق الفعلية؛ بقدر ما يكون، في غالبه، وهمًا ثقافيًا لغويًا أو فكريًا تواطأت عليه العادات والأعراف، ونمط التربية، والإعلام. وكان شريكًا فيه — وبشكل أساسي — الخطاب الديني المبتور.
وفي الحقيقة، فإن هذا الوهم الذي يتم البناء عليه لا يكتفي فقط بتشكيل الصورة النمطية عن "الأخلاقي" و"المنحرف"، بل يُستخدم كوسيلة لمعايير الضبط الاجتماعي، والإقصاء، والتهميش، وأحيانًا التصفية.
تقع المجتمعات الشرقية والتقليدية، في معظمها، في فخّ التقاليد والأعراف، التي تُعامل كمرجعيات مقدسة لا تُمسّ. فهي ترفع العرف والتقليد، أو العادة المتوارثة عبر الأجداد والآباء، إلى مرتبة القداسة. ومن هنا، يتحوّل ما كان عليه الأجداد إلى معيار مطلق للصواب والخطأ، وتُصاغ على أساسه مفاهيم التفوق الأخلاقي، وفقًا لمعايير السلوك الظاهري، لا النية أو الفعل الأخلاقي الحقيقي أو مقدار الضرر.
فنجد أحيانًا أن امرأةً تلبس الحجاب وتبقى في منزلها تُعدّ "نقية أخلاقيًا"، بينما يُشكك في أخلاق امرأة تعيش في المدينة وتعيل أطفالها وحدها، فقط لأنها خرجت عن المتعارف عليه. وقد يُحتفى بشابٍ لأنه منع أخته من السفر لإكمال دراستها أو منعها من العمل بدعوى "حفظ عرض العائلة"، ليُصبح رمزًا للسلوك الأخلاقي النقي، بينما يُشيطن شابٌ آخر لأنه احترم خيارات أخته وكان سندًا لها. وهنا تكمن المفارقة الواضحة في مجتمع تُكافأ فيه السيطرة ويُدان فيه الاحترام، حين تتحوّل القيم الأخلاقية إلى قشرة خارجية.
في الحقيقة، اللغة أكثر من وسيلة للتواصل. إنها الإطار الحامل للفكر، والأداة التي تُعيد إنتاج القيم، وقد تتحوّل إلى أداة للوصم وتبرير العنف، خصوصًا في المجتمعات التي تستخدم عبارات مثل: "غسل العار"، "الرجل لا يهمه شيء"، "ضرب الحبيب زبيب"، و"المرا متل الزيتون، كل ما رصيتها بتحلى". كلها عبارات تُكرّس صورًا نمطية قاتلة، وتُبرر، في النهاية، جرائم شرف تُقتل فيها فتيات يوميًا، وتُدان الضحية، ويُحتفى بالقاتل، بدعوى استعادة الكرامة والشرف. وكل هذا نتيجة تشويه أخلاقي مصدره لغة رائجة، بعيدة كل البعد عن جوهر القانون.
كما نشهد تكريسًا نمطيًا لصورة المرأة في الإعلام والفن، يساهم في بناء وعي زائف يعيد إنتاج صورٍ مؤطّرة للنساء. فتُقدَّم "المرأة المحترمة" على أنها الضعيفة، المتسامحة مع خيانة الرجل، والحاضرة دائمًا لخدمته وطاعته؛ بينما تُصوَّر المستقلة، المتمكّنة، الواثقة بقدراتها، على أنها متسلطة، مسترجلة، ومسيطرة. وفي النهاية، يُوصَف كل من يختلف عن النمط بأنه "خطر على المجتمع"، ويُسهّل بذلك تمرير القمع والإقصاء والتهميش، ليصبح وهم النقاء الأخلاقي وسيلة لصناعة العنف وتبريره، لا ردعه.
الفتاة التي تهرب، على سبيل المثال، من عنف أسري واقع عليها، تُدان بدلًا من أن تُحتضن.
ولكسر هذه المفاهيم المرتبطة بـ"السلوك الأخلاقي الحقيقي" المستمد من مواريث الأجداد والآباء، علينا أن نبدأ بتفكيك أوهام النقاء الأخلاقي، والاتجاه نحو فهم أعمق للأخلاق في المجتمعات الشرقية. ويبدأ ذلك من تفكيك التعبيرات المتداولة التي تُصنّف النساء أخلاقيًا بناءً على مظهرهن لا جوهرهن، والتي تربط الأخلاق بلباس معيّن، أو سلوك اجتماعي مطيع، أو خلفية عائلية محافظة.
نحن بحاجة ماسّة إلى إعادة تعريف الأخلاق على أنها احترام لخيارات الفرد، وحقوقه، وكرامته، وإنسانيته، طالما أنه لا يؤذي الآخرين. ويجب علينا توعية المجتمعات بأن الفتاة المستقلة أو الجريئة ليست "ساقطة"، بل قد تكون أكثر صدقًا، وتتسم بأخلاق حقيقية أكثر من غيرها.
هذا كله يندرج تحت ضرورة بناء خطاب بديل، تتبناه المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية، لترسيخ مفاهيم أخلاقية مبنية على الرحمة، والتفاهم، وقبول الآخر، لا على الترهيب، والإقصاء، والتهميش.
إننا اليوم بأمسّ الحاجة لأن تتحوّل أماكن تلقّي العلم، من مدارس وجامعات، إلى فضاءات تعزز الحوار والتفكير النقدي، وتطرح قصصًا واقعية تكسر الصور النمطية حول الشرف والطاعة وأوهام النقاء الأخلاقي، وتناقش بعمق: متى يصبح المجتمع ظالمًا باسم الأخلاق؟
علينا أن ننتبه إلى أن كسر أوهام النقاء الأخلاقي لا يعني تدمير القيم، بل استعادتها من سطوة العادات والتقاليد القمعية. لأننا، ببساطة، بحاجة إلى مجتمع عادل، لا مجتمع أخلاق وهمي.