تقارير وتحقيقات | 17 04 2025

في مشهد غير مألوف لأحد أعرق المعالم الإسلامية في دمشق، فواصل حديدية قسمت باحة المسجد الأموي إلى قسمين: الأول للذكور والآخر للإناث بهدف ما قيل إنه لـ"منع الاختلاط" بين الجنسين، ما أثار موجة من ردود الفعل المتباينة عبر مواقع التواصل.
المسجد الأموي، الذي كان مزيجاً من العبادة والتراث والتاريخ، تحوّل في عيون كثيرين إلى رمز جديد للتغيرات التي تشهدها البلاد بعد سقوط النظام السوري السابق، وسط تساؤلات حول دوافع خطوة "الفصل"، وتوقيتها، وتأثيرها أيضاً على رمزية "الأموي".
قرار رسمي
مصدر من الجامع الأموي رفض ذكر اسمه، قال لروزنة إن الفصل بين الجنسين بدأ منذ منتصف شهر رمضان الفائت، بقرار صادر من مديرية الأوقاف، بسبب ما اعتبرته "وجود بعض المخالفات الشرعية"، بهدف الحفاظ على "حرمة المسجد".
ورغم القرار، يغض الطرف حالياً في تطبيقه على المجموعات السياحية الأجنبية التي تزور المسجد، وفق المصدر ذاته، موضحاً أنه جرى تخصيص باب للنساء غير الباب الرئيسي أيضاً.
مراسل روزنة في دمشق قال إنّ الفواصل كانت موجودة منذ ليلة القدر في الـ 28 من رمضان الفائت، مؤكداً أنها حالياً تستخدم للفصل بين الذكور والإناث.
وأضاف المراسل وفق مشاهدته أن صحفية كانت ترافق شخصاً ووالدته، وأثناء وقوفهم سوية عند أحد الفواصل، أخبرهم شخص (لم تحدد هويته أو صفته) أنّ عليهم التحرك والالتزام بالفصل، ليقرروا الخروج إثرها من المسجد.
أكدت أيضاً مصادر أهلية متقاطعة وجود الفصل في باحة الجامع، فيما تنتظر روزنة رداً على أسئلتها حول القرار، وجهتها لوزارة الأوقاف عبر مكتبها الإعلامي.
وذكر موقع "صوت العاصمة" أمس الأربعاء، أنه بعد يوم واحد من فصل ساحة المسجد الأموي إلى قسمين، قسم للرجال وقسم للنساء، تم منع دخول النساء من البوابة الرئيسية للمسجد، وتحوّل دخول النساء إلى الباب الشمالي "باب صلاح الدين".
وأرفق الموقع صوراً لساحة المسجد يظهر فيها فواصل وسلاسل حديدية، تقسم الساحة إلى قسم يتوزع فيه الرجال وآخر للنساء والأطفال.
وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلاً مصوراً لسيدة داخل المسجد الأموي بدمشق وهي تتحدث عن الفصل بين الرجال والنساء في باحة المسجد، قائلة: "لا أستطيع المشي مع أخي هنا، أصبح ممنوعاً، وحالياً أسير في قسم النساء فقط".
باحة المسجد الأموي
يعتبر الجامع الأموي الكبير بدمشق، وفق منظمة الأمم المتحدة "اليونيسكو"، أحد أكبر المساجد في العالم، وأحد أقدم مواقع الصلاة المستمرة منذ ظهور الإسلام. ويشكل تطوراً ثقافياً واجتماعياً وفنياً مهماً.
أما باحته فهي ساحة واسعة محاطة بأروقة ذات أعمدة، وتضم العديد من المعالم البارزة.
من أبرز هذه المعالم "قبة الخزنة"، وهي بناء مثمن الشكل مزين بزخارف فسيفسائية، كان يستخدم قديمًا لحفظ الوثائق والمقتنيات النفيسة. أيضاً تحتوي الباحة على "قبة الوضوء" التي كانت تستخدم لتوفير المياه للوضوء قبل الصلاة.
تُحيط بالباحة ثلاثة مآذن مميزة: مئذنة العروس، مئذنة قايتباي، ومئذنة عيسى، كل منها يعكس أسلوباً معمارياً فريداً. وتزيّن جدران الباحة بزخارف فسيفسائية تصور مناظر طبيعية ومعمارية، مما يضفي على المكان جمالاً فنياً وتاريخياً فريداً.
"كان مكاناً يجمعنا"... بين الانتقاد والترحيب
حسب رصدنا في منصة فايسبوك، رأى معلقون أن الخطوة جيدة لتنظيم الحركة داخل المسجد، فيما اعتبرها آخرون مؤشراً على تصاعد الفكر المحافظ ووصفه البعض بـ"المتشدد" في التأثير على رمزية المسجد كمكان جامع لا يفرّق بين الجنسين.
ومنذ كشف موضوع الفصل بين الجنسين في باحة المسجد الأموي، تصاعد الجدل بين من رأى فيه "تقييداً لروح المكان"، ومن اعتبره خطوة لتنظيمه، كما تنوّعت شهادات زوار الجامع بين "حنين لرمزية الباحة الجامعة للعائلة"، وقبول "بفكرة الخصوصية".
عمران، 34 عاماً، من دمشق، يقول لروزنة: "سابقاً كنا نزور المسجد الأموي بشكل عائلي، أنا ووالدي ووالدتي وأخوتي، نتجوّل داخل الباحة، نرتاح عند العتبات ثم ندخل سوية لنصلّي، الرجال قرب المحراب والنساء خلفهم، ثم نجلس كلنا معاً أو نزور مقام النبي يحيى".
ويتابع "المسجد كان أقرب لمعلم تاريخي له خصوصية لنا، كان مكان يجمعنا كلّنا، حتى السيّاح كانوا يأتون ويزورونه معنا، السيدات غير المحجبات كانوا يعطونهن جلباباً عند باب المسجد ويدخل الجميع، المكان يشبه إلى حد كبير مسجد آيا صوفيا في تركيا، أي مركز ديني ومعلم تاريخي وحضاري مهم لذلك هو مفتوح للجميع".
لكن على الطرف الآخر، يرى عماد، من سكان دمشق، أن الفصل قد يكون له جوانب إيجابية.
يقول لروزنة: "لاحظت مؤخراً أنهم وسّعوا القسم المخصص للنساء داخل المصلى، وهذا برأيي أمر إيجابي. كما أن تخصيص أبواب للنساء والرجال قلّل من الازدحام، ومنح النساء خصوصية. أعتقد أن الفصل في الساحة مؤقت، خصوصاً مع الحديث عن زيارة محتملة لأردوغان (الرئيس التركي)".
ويلفت عماد إلى أنه في فترات سابقة، "كان بعض الزوار يتصرفون في الساحة بطريقة لا تليق بحرمة المسجد، ورأيت أحياناً من يتعامل مع المكان كوجهة للقاء بين العشاق، وهذا غير مناسب داخل مكان ديني"، وفق قوله.
وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، أعلن قبل أيام خلال مؤتمر بختام مؤتمر أنطاليا الدبلوماسي، وجود نية لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لزيارة سوريا، ويجري التحضير لتهيئة الظروف المناسبة وتحديد موعد.
وفي هذا السياق، وبحسب وكالة "أنباء تركيا" فإن وفداً تجارياً واقتصادياً وصناعياً كبيراً على رأسه وزير التجارة التركي عمر بولات زار المسجد الأموي في دمشق.
لا تزال العديد من الأصوات تعتبر أن الفصل ليس مجرد إجراء تنظيمي، بل تبديل في الوظيفة الرمزية والاجتماعية للمكان، عبر منشورات وتعليقات كتبت في "فايسبوك".
بهاء دبوس، صحفي سوري، يصف ذلك بالقول في منشور عبر فايسبوك: "الجامع الأموي صرح ديني وتاريخي وحضاري وليس ملكاً لحزب أو جهة. لا يوجد نص ديني يفرض الفصل بين الجنسين في باحة المسجد، ما يجري هو تشويه لعرف عمره أكثر من 1300 عام".
ويرى محمد هويدي، كاتب وباحث سياسي، أن الأمر أخطر من ذلك: "هذا القرار مؤشر على ذهنية متشددة ترى في الإقصاء ديناً، وتتحكم بالمجال العام. وعندما تُترك الجموع الجهادية لتقرر مصير الفضاءات العامة، تكون النتيجة كارثية".
الناشطة نسرين الريش تنتقد القرار من زاوية دينية: "حتى في الحرم المكي لا يتم الفصل بين الرجال والنساء! والشرع كان مع السيدة حرمه لطيفة الدروبي في الحرم المكي، فكيف يمنع الآن دخول النساء من باب المسجد الأموي؟".
"أبو موسى" عبّر عن امتعاضه بطريقة ساخرة: "هل أصبح الناس يذهبون لرؤية نصف المسجد فقط؟ هذا ليس فقط مسجد، بل معلم تاريخي، والناس تريد رؤيته بالكامل".
أما فاطمة فتوضح الفرق بقولها: "الفصل داخل المصلى أمر طبيعي. لكن باحة المسجد مكان مفتوح، يزوره الناس والعائلات من أجل رؤية الصرح، فما الداعي للفصل هناك؟".
وانتقد عماد قزح متسائلاً: "إذا أراد زوجان زيارة المسجد، هل يترك الرجل زوجته في جهة وهو في جهة ثانية؟ هذه خطوة لا مبرر لها، لم تحدث حتى في المسجد النبوي أو الحرام".
من جانبه، بهاء العلي خالفهم الرأي بقوله:"هذا جامع وليس حديقة أو منتزه، طبيعي أن يكون هناك فصل بين الجنسين".
تاريخ المسجد الأموي
ويعتبر الجامع الأموي الكبير بدمشق الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن والذي بني على أنقاض معبد آشوي، وفق منظمة الأمم المتحدة "اليونيسكو"، أحد أكبر المساجد في العالم، وأقدم مواقع الصلاة المستمرة منذ ظهور الإسلام، ويشكل تطوراً ثقافياً واجتماعياً وفنياً مهماً.
وقالت "اليونيسكو"، كانت دمشق، كعاصمة للخلافة الأموية، أول خلافة إسلامية، ذات أهمية كبيرة في تطوير المدن العربية اللاحقة. ومع مسجدها الكبير في قلب خطة حضرية مستوحاة من الشبكة اليونانية-الرومانية، قدمت المدينة النموذج المثالي للعالم العربي الإسلامي، تضيف المنظمة.
وشيّد الجامع في موقع ذي تاريخ ديني عريق، إذ كان معبداً للإله الآرامي "حدد" في الألفية الأولى قبل الميلاد، ثم تحوّل إلى معبد روماني للإله "جوبيتر"، ولاحقاً إلى كنيسة القديس يوحنا المعمدان في العهد البيزنطي.
و"مع الفتح الإسلامي لدمشق، قسّم الموقع بين المسلمين والمسيحيين، حيث استخدم المسلمون الجزء الشرقي كمسجد، والمسيحيون الجزء الغربي ككنيسة"، لكن المسجد لم يكن يعتبر رائداً فقط بسبب زخرفته. كان بناؤه وتصميمه المبتكرين أيضاً مصدر إلهام لبناء العديد من المساجد الأخرى التي شيدت في القرون التالية.
و في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (705-715م)، تم تحويل الموقع بالكامل إلى مسجد، حيث بُني الجامع الأموي بتصميم فريد يجمع بين الفنون المعمارية الإسلامية والتأثيرات البيزنطية.
وحسب محمد الإدريسي، الجغرافي والمسافر المسلم، كان المسجد لا مثيل له في العالم، مشيراً إلى بنائه المتين وتصميمه المتنوع المدهش، بحسب موقع "middleeasteye".