تقارير وتحقيقات | 7 02 2025

كشف "قيصر" المصوّر الذي سرّب عشرات آلاف صور المعتقلين الذين تعرّضوا للتعذيب في سجون النظام السوري المخلوع، عن هويته، بعد شهرين من سقوط الأخير، معلناً أنه المساعد أول فريد المذهان من شرطة دمشق العسكرية.
وفي عام 2014، شهد العالم واحدة من أكبر عمليات تسريب صور توثق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، عُرفت باسم "صور قيصر". قام ضابط سوري سابق في الشرطة العسكرية، بتسريب أكثر من 50 ألف صورة توثّق التعذيب والقتل الممنهج للمعتقلين في سجون النظام السوري بين عامي 2011 و2013، وفق "هيومن رايتس ووتش.
جاء ذلك في حلقة على قناة "الجزيرة" مساء أمس الخميس، في برنامج "للقصة بقية". وتحدث خلال المقابلة عن كيفية تسريب آلاف الصور ومهمته وتفاصيل حول التعذيب وأسباب الوفاة التي كان يعلنها النظام بحق المعتقلين.
من هو المذهان؟
"أنا المساعد أول فريد المذهان، رئيس قلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق، المعروف بقيصر، ابن سوريا الحرة، أنا من مدينة درعا مهد الثورة السورية"، هكذا بدأ المذهان المقابلة المصورة بالصوت والصورة لأول مرة بعد تسريبه آلاف الوثائق.
قبل عام 2011 كان عمل المذهان، عملي إنساني وهو تصوير كافة حوادث القتل الجنائية في دمشق من حريق وغرق وانتحار، لكن مع بداية الثورة السورية أصبحت مهمته الرئيسية تصوير جثث ضحايا الاعتقال "لشيوخ ونساء وأطفال وشباب اعتقلوا على الحواجز العسكرية والأمنية بدمشق ومن ساحات التظاهر التي نادت بالحرية" يقول المذهان.
ويضيف: "اعتقلوا وعذبوا وقتلوا بطرق دموية ممنهجة، ومن ثم نقلت جثثهم إلى المشارح العسكرية من أجل تصويرها ونقلها إلى مقابر جماعية".
ما أسباب توثيق النظام لصور جثث المعتقلين؟
يقول المذهان إنّه لا يوجد تحليل منطقي لرغبة النظام بتوثيق وتصوير جثث المعتقلين، لكن برأيه الشخصي، أن أوامر التصوير كانت تصدر من أعلى هرم في السلطة للتأكد من أن القتل ينفّذ فعلياً، ولا يجري تهريب لأي معتقل بواسطة أو محسوبية، يوضح المذهان.
وهناك سبب آخر برأيه لتصوير الجثث، وهو أن قادة الأجهزة الأمنية كانوا يعبرون عن ولائهم المطلق لبشار الأسد من خلال صور المعتقلين.
ويستذكر المذهان أول يوم صور فيها جثث ضحايا معتقلين، في آذار عام 2011 عندما كلّف قسم الأدلة القضائية بالتوجه إلى مشرحة مستشفى تشرين العسكري لتصوير أشخاص مجهولين، وتبين لاحقاً أنها جثث لمتظاهرين قتلوا بالرصاص الحي.
وأوضح أن أماكن تجميع وتصوير جثث ضحايا الاعتقال كانت في البداية بمستشفى تشرين العسكري، وبعض الأحيان في مستشفيي حرستا والمزة، لكن مع مرور الوقت تحول مرآب السيارات في مستشفى المزة العسكري إلى ساحة تجميع جثث لتصويرها مع ازدياد القتلى.
مطلع الثورة السورية كان عدد الجثث يومياً ما بين 10 إلى 15، ومع الوقت وصل العدد إلى 50 في اليوم، يوضح المذهان.
وفي كانون الأول 2015، أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريراً بعنوان "لو تكلم الموتى: الوفيات الجماعية والتعذيب في المعتقلات السورية"، والذي استند إلى تحليل صور "قيصر" وشهادات المعتقلين السابقين. وأكد التقرير أن هذه الصور تقدم دليلاً دامغاً على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا.
اقرأ أيضاً: سوريا: تقرير يكشف آليات القتل والتعذيب في مستشفى تشرين العسكري
وسائل التعذيب
عندما دخل المذهان لأول مرة إلى الساحة المخصصة لتجميع جثث ضحايا الاعتقال، كان هناك شيوخ وشباب عرّوا من ثيابهم، وألقوا بشكل عشوائي على الأرض وغير أخلاقي، يقول.
ويضيف: "شعرت أني داخل مسلخ بشري، داخل آلة قتل تعمل ليل نهار يديرها أشخاص لا ينتمون للبشرية، أحسست بالذهول والصدمة من هول تعذيب المعتقلين".
ويوضح: "كان هناك علامات خنق وكسر أسنان وفقع عيون وكسر أطراف، كانت الجثث تبدون كأنها شبه هياكل عظمية نتيجة الجوع الممنهج".
سبب الوفاة توقف القلب
ومع بدء الثورة السورية ومع تحول عمل المذهان إلى تصوير جثث ضحايا الاعتقال، أصبح سبب الوفاة واحداً لجميع المعتقلين وهو "الوفاة إثر توقف قلب وتنفس"، وفق قوله.
ولفت المذهان إلى تحوّل السجون إلى وسيلة تمنح للضباط لجني المال وليس فقط للاعتقال، حيث مورست "عمليات ابتزاز ممنهجة ضد الآلاف من أهالي المعتقلين دون الحصول على أي معلومات".
كيف سرّب الوثائق؟
تحدث المذهان عن كيفية تسريبه لآلاف الوثائق، قائلاً: "كنت أملك هوية رسمية عسكرية وهوية مدنية مزورة للتنقل بين مقر عملي بدمشق وإقامتي في مدينة التل التي كانت تحت سيطرة الجيش الحر" بريف دمشق.
وأوضح أنّ "عملية تهريب الصور كانت تجري بشكل شبه يومي قرابة 3 سنوات، من مقر عملي في دمشق إلى مقر سكني في التل (...) كنت أتعرض للتفتيش في مناطق سيطرة النظام وفي منطقة سيطرة الجيش الحر" واصفاً العملية بأنها "رحلة الموت" التي عاشها يومياً.
كان المذهان يخبئ وسائط نقل الصور في ثيابه وربطة الخبز وجسده، خوفاً من التفتيش على الحواجز الأمنية، وفق قوله.
قد يهمك: تقديم مشروع قانون أمريكي لتمديد قانون قيصر إلى 2032
قرار الانشقاق
وعن قرار الانشقاق، قال المذهان إنه كان ينوي الانشقاق منذ مطلع الثورة السورية بعدما شاهد كم الإجرام والوحشية بحق السوريين، لكنه أجل الأمر ليتمكن من جمع أكبر عدد من الصور والأدلة.
واتخذ المذهان قرار الانشقاق عن النظام عام 2013 عندما زادت القبضة الأمنية وأصبحت حركته محدودة، وعندما زادت الانشقاقات في صف قوات النظام، "أصبحت أشعر بأني مراقب، وبخاصة عندما وظفوا اثنين من الشرطة العسكرية في القسم عندي، هنا قررت الخروج من سوريا" يقول.
خرج المذهان من سوريا عبر الأردن إلى قطر، وهناك تعاون مع مكتب محاماة لتجهيز ملفه من أجل محاسبة النظام، وفق قوله.
ويعيش حالياً مع عائلته في فرنسا، موضحاً أنه نتيجة الاحتياطات الأمنية حوله حرم عائلته من العيش بشكل طبيعي، وحتى من الالتحاق بدروس تعلم اللغة، وفق قوله.
ودعا المذهان الحكومة السورية الانتقالية إلى "فتح محاكم وطنية تقوم بملاحقة ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب".
كيف بدأت رحلة ملف قيصر؟
يقول المذهان، بدأت رحلة ملف "قيصر" في قطر، حيث تولى مكتب محاماة بريطاني، مكلف من الحكومة القطرية، التحقق من شخصيته وصحة الصور التي سربها، والتي تدين أجهزة المخابرات السورية بارتكاب جرائم مروعة بحق المعتقلين.
وقد تأكد مكتب المحاماة أن "قيصر" كان مصوراً في الشرطة العسكرية للنظام السوري، ووثّق آلاف الصور لضحايا التعذيب في السجون السورية، وفق المذهان.
وفي ظل تعطل مسار العدالة الدولية في الأمم المتحدة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، أصبح اللجوء إلى المحاكم الأوروبية خياراً ضرورياً، حيث عملت منظمات سورية وأوروبية معنية بحقوق الإنسان على رفع دعاوى قضائية في فرنسا وألمانيا بالتعاون مع أهالي الضحايا، مستندة إلى صور قيصر كدليل دامغ على الجرائم والانتهاكات، يوضح المذهان.
وساهمت شهادة "قيصر" أمام الادعاء الفرنسي في إصدار عدة مذكرات اعتقال بحق مسؤولين وضباط أمن سوريين، حيث تم القبض على عدد منهم وإيداعهم السجن، وفق قوله.
وتُعد هذه التسريبات من أهم الأدلة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا، وقد أسهمت في زيادة الوعي العالمي بجرائم النظام السوري، وأدت إلى فرض عقوبات دولية، مثل "قانون قيصر" الذي أقرته الولايات المتحدة ودخل حيز التنفيذ في عام 2020، مستنداً إلى صور المذهان، والذي فرض إجراءات اقتصادية على النظام السوري السابق.