تقارير وتحقيقات | 29 01 2025

لم يكن مبلغ 285 ألف ليرة سورية (22 دولاراً)، الذي يتقاضاه العقيد المتقاعد، عاطف رستم، كافياً لسد احتياجاته الغذائية والدوائية، لكن بالتأكيد كان "البحصة يلي بتسند جرة"، ومع غياب الراتب التقاعدي منذ شهرين لا يجد الرجل بداً من الانتظار القاسي.
وكان آخر راتب حصل عليه العسكريون المتقاعدون منتصف تشرين الثاني من العام الماضي، فيما لم يحصلوا على راتبي كانون الأول والثاني.
رواتب كل العسكريين توقفت حتى المتقاعدين منهم ما قبل عام 2011.
وفي يوم السابع من كانون الثاني 2024 تبلّغ معظم العسكر من قادتهم، لدى قوات النظام السابق، ترك السلاح والانسحاب من قطعاتهم العسكرية وذلك قبل هروب بشار الأسد للبلاد بيوم. معظم العناصر انسحبوا.
وعلى خلفية سيطرة "الإدارة السورية الجديدة" الممثّلة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام) على دمشق في 8 كانون الأول الفائت، وعلى أجزاء واسعة من البلاد، انحلت وزارة الدفاع وتوقف العمل في كل المؤسسات التابعة لها.
20 عاماً من التقاعد: ما ذنبنا؟
رستم (71 عاماً) الذي ينحدر من محافظة السويداء، والمتقاعد منذ نحو 20 عاماً، يضطر للاستدانة من أجل تأمين لقمة المعيشة، يقول لروزنة: "عم نتدّين لناكل".
ويعاني من مرض السكر، إذ يحتاج شهرياً إلى دواء خاص ثمن العلبة الواحدة منه 430 ألف ليرة سورية للنوع الأجنبي (33 دولاراً)، وهو ما لا يستطيع تحمله، وحتى النوع المحلي لم يعد قادراً على شرائه حيث ساعدته شقيقته في الحصول على علبتين مؤخراً تكفيانه لشهرين.
يعاني كذلك رستم، من مشاكل في الذاكرة، ولا يستطيع العمل بأي مهنة حالياً، مضيفاً: "ما ذنبنا نحن؟ أتمنى ألا تطول هذه الفترة، وأن نحصل على رواتبنا".
ويعيش نصف سكان سوريا في فقر مدقع، في وقت لا تزال تشهد الليرة السورية تدهوراً مستمراً، وفق تقرير للأمم المتحدة، نشر قبل أيام، جاء فيه أنّ الليرة السورية فقدت عام 2023 حوالي ثلثي قيمتها، ما رفع معدل التضخم الاستهلاكي إلى 40 بالمئة خلال عام 2024.
اقرأ أيضاً: ميساء صابرين: لدى البنك المركزي أموال كافية لدفع رواتب الموظفين
البسطات آخر حلول المتقاعدين
ويروي رستم حال بعض أصدقائه من المتقاعدين العسكريين ما قبل عام 2011. أحدهم اليوم يبيع قهوة على بسطة في السوق، أخبره: "عاطف صح أنا كنت عقيد، بس هلق بدي آكل".
صديقه الثاني باع سيارته ليسفر ابنه خارج البلاد، وهو اليوم يفكر بافتتاح بسطة خضار والعمل فيها لأن الوضع سيء ولم يتبق أي حلول.
ولا معلومات حتى اللحظة عن موعد منح المتقاعدين العسكريين رواتبهم، على الرغم من تصريح وزير المالية، محمد أبازيد مطلع العام الجاري، لوكالة "سانا" أن كل المتقاعدين العسكريين قبل عام 2011 سيحصلون على رواتبهم كاملة بعد تدقيق القوائم المالية الاسمية لهم.
ووفق "الأمم المتحدة" يحتاج نحو 16.7 مليون شخص، ما يزيد عن ثلثي سكان البلاد، إلى أحد أشكال المساعدة الإنسانية، وهناك سبعة ملايين نازح داخلياَ، فيما تستمر معدلات سوء التغذية المزمن في الارتفاع.
وصنف تقرير الأمم المتحدة، سوريا في المرتبة 158 من أصل 160 دولة في "دليل الإسكوا" لتحديات التنمية في العالم لعام 2024، مشيراً إلى مشكلات متجذرة في الحوكمة، والتدهور البيئي، وانتشار الفقر بشكل واسع.
قد يهمك: "لسّاتها مستحيلة"... سوريون عاجزون عن العودة بسبب الدمار وغياب الأمن
كان يكفي ثمن خبز
حال رستم، لا يختلف كثيراً عن حال العقيد المتقاعد أبو تمام من ريف اللاذقية، والذي أبدى استغراباً كبيراً من توقف راتبه وزملائه، رغم أنه تقاعد من الجيش منذ عام 1999.
وأضاف أبو تمام لروزنة، مفضلاً عدم ذكر اسمه كاملاً، أن راتبه كان نحو 320 ألف ليرة سورية (24 دولاراً) يكفيه وزوجته ثمن خبز وبعض أنواع الخضروات.
وتساعده ابنته المغتربة بمبلغ 100 دولار شهرياً، يشتري بها دواءه الذي يكلفه شهرياً أكثر من 500 ألف ليرة (38 دولاراً)، إذ سبق وعانى من سكتة دماغية.
يقول أبو تمام: "إن الوضع اليوم بات كارثياً، فسعر ربطة الخبز ارتفع 10 أضعاف، وسعر أسطوانة الغاز ارتفع من 23 إلى 190 ألف ليرة سورية".
المئة دولار التي كان يستلمها أبو تمام تعادل اليوم مليون و50 ألف ليرة سورية، بينما كان يستلمها قبل شهرين بقيمة مليون و400 ألف، وهذا ما يسبب له ولزوجته إرباكاً كبيراً، ولا معيل آخر لهما.
ووصل سعر صرف الدولار قبل نحو شهرين إلى 14 و15 ألف ليرة سورية، فيما أصبح اليوم بسعر 11 ألف ليرة، في ظل ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية عن السابق، وبشكل خاص الخبز.
وتأمل أبو تمام كثيراً بزيادة الرواتب بعد سقوط النظام، لكن ما حدث خالف كل توقعاته، وما زاد من مرار الانتظار ما سمعه من أن الزيادة المرتقبة لن تشمل المتقاعدين.
وتداول ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي خبراً بأن الزيادة بنسبة 400 بالمئة المقررة مطلع شباط القادم لن تشمل المتقاعدين، ولم يتم نفي الخبر أو تأكيده بطريقة رسمية حتى الآن.
وكان وزير المالية، محمد أبازيد، قال إنهم سيرفعون رواتب موظفي القطاع العام بنسبة 400 بالمئة في ابتداء من شهر شباط المقبل، موضحاً لوكالة "رويترز" أنّ زيادة الرواتب ستموّل من خزينة الدولة والمساعدات الإقليمية والاستثمارات، وربما الأصول السورية المجمدة في الخارج بعد فك تجميدها.
وفي تصريحه لوكالة "سانا" بيّن أبو زيد أن الزيادة على الرواتب كان مقرر صرفها مطلع كانون الثاني الجاري، لكن الحكومة تفاجأت بأنّ أعداد العاملين المسجلين في الجهات العامة أكبر بكثير من الأعداد الفعلية على أرض الواقع، إضافة إلى وجود قوائم أسماء وهمية تتقاضى رواتباً دون دوام فعلي.
اقرأ أيضاً: ميساء صابرين أول سيدة مكلفة كحاكم مصرف سوريا المركزي.. من هي؟
100 ألف ليرة كانت جيدة!
وفاء سيدة ستينية من ريف جبلة في محافظة اللاذقية، كانت تحصل شهرياً على نحو 100 ألف ليرة (7.6 دولار) كحصة لها من راتب زوجها العسكري بعد وفاته عام 2008 بحادث سير.
لكن اليوم بقيت وفاء بدون تلك المئة ألف التي كانت على قلتها كافية لشراء الخبز بسعره القديم 400 ليرة للربطة الواحدة، وأسطوانة الغاز بسعرها السابق 23 ألف.
تقول وفاء لروزنة: "إن ما زاد الأمر سوءاً هو توقف راتب ابنها الآخر الذي كان يعمل كعسكري في مرفأ اللاذقية".
وتعيش اليوم وفاء وعائلة ابنها العسكري، المؤلفة من زوجة وطفلين، على راتب ابنها الآخر العازب الذي يعمل في مصفاة بانياس، وهو بطبيعة الحال لا يكفي اليوم أكثر من ثمن خبز للعائلة الكبيرة التي تحتاج يومياً 12 ألف ليرة ثمن خبز فقط.
حتى أسطوانة الغاز لم تستطع وفاء شراءها لولا أن تدخل شقيقها ومنحها ثمنها كدين ريثما تتحسن الظروف.
"أشعر بأني على بعد دقيقة من الجلطة"، تصف السيدة حالها، وهي تنظر إلى حفيدتين صغيرتين عمر الكبيرة لا يتجاوز 5 سنوات والصغيرة في الثالثة، وهي تفكر ماذا ستطبخ اليوم، بينما ينصرف ابنها بحثاً عن أي عمل.
وتبدو الخيارات ضيقة للغاية مع توقف معظم الأعمال بانتظار استقرار السوق، كما أن اللاذقية ليست مليئة بالفرص، ولا تتجاوز فرص العمل الزراعي لمن يمتلك أرضاً أو خلال المواسم، كذلك العمل كسائق سرفيس.
وتبدو الخيارات محدودة للغاية، حيث توقفت معظم الأعمال انتظاراً لاستقرار السوق. كما أن اللاذقية لا تزخر بالفرص، إذ تقتصر فرص العمل على الزراعة لمن يملك أرضاً أو خلال المواسم، إضافة إلى العمل كسائق سرفيس.
لا تنكر السيدة بأن المئة ألف تلك لم تكن تكفي شيئاً، لكنها على الأقل كانت تشعر بأنها تمتلك مبلغاً ولو صغيراً آخر الشهر، وتأمل أن يزداد يوماً ما، واليوم فقدت ذلك المبلغ على قلته.
وكانت الأوضاع المعيشية في سوريا سيئة في الأساس، لكنها تزداد تفاقماً اليوم مع أزمة الرواتب، حيث لم يتلقَ المتقاعدون العسكريون وكثير من الموظفين المدنيين مستحقاتهم حتى الآن، في حين حُرم العمال المياومون من رواتبهم بالكامل دون أي أمل في الحصول عليها.
ويواجه كبار السن في سوريا تحديات كبيرة، إذ يعجز معظمهم عن تأمين الغذاء الصحي بسبب ارتفاع أسعاره، كما يجدون صعوبة في الحصول على الأدوية، التي رفعت حكومة النظام السابق أسعارها عدة مرات، مما جعل تكلفة العلاج للأمراض المزمنة عبئاً شهرياً يقدر بعشرات الآلاف من الليرات السورية.