تقارير وتحقيقات | 14 01 2025

أثار فيديو نشره فريق "سواعد الخير" التطوعي، أمس الاثنين، حول ما أسماه "إعادة إحياء" زنزانة في فرع الأمن السياسي باللاذقية عبر طلائها بالدهان، غضباً واسعاً بين السوريين، مطالبين بتحقيق فوري بالقضية ووضع حد لما أسموه بـ"فوضى المعتقلات".
وأكد حقوقيون، أنّ تلك المبادرة ما هي إلا طمس للحقيقة و"عبث خطير بالأدلة والشواهد المرتبطة بالضحايا" في معتقلات النظام السابق ومراكز الاحتجاز في الأفرع الأمنية التابعة له.
وانتشر الفيديو على نطاق واسع بين السوريين، لمجموعة شباب وشابات فريق "سواعد الخير" وهم يدخلون إلى إحدى غرف المعتقلات في اللاذقية، قائلين: "هون كان في ناس عم تتنفس بس بلا روح".
ومن ثم يظهر الفيديو كيف بدأ أفراد الفريق بتلوين الحيطان. لكن بعد الهجوم والانتقاد عبر مواقع التواصل، حذف الفيديو من صفحتهم الرسمية.
ويتألف الفريق من مجموعة رسّامين، بحسب "نعمة حسينو" التي شاركت في المبادرة، إضافة للصحفي يزن فويتي.
وأثار وجود "فويتي" حالة غضب لدى سوريين عبر مواقع التواصل، لعمله قبل سقوط النظام في "التلفزيون الرسمي السوري" ومركز "اللاذقية" حسب قناته في يوتيوب وحسابه الشخصي بفايسبوك.
ويعرّف فريق "سواعد الخير" الموجود في اللاذقية، عن نفسه في صفحته عبر منصة "فيسبوك" بأنه مجموعة تطوعية شبابية، بدون تمويل، هدفها إعمار سوريا وتشجيع الشباب السوري على العمل التطوعي.
وبدأ الفريق نشاطه أواخر الشهر الفائت، منها مبادرة جمع تبرعات تأمين أدوية للمحتاجين، وأنشأ عام 2015، لكن دون وجود أي تفاعل منذ ذلك الوقت.
ما الهدف من المبادرة؟
أحد أعضاء فريق "سواعد الخير"، صانع المحتوى عبد الله دالاتي علق عبر "انستغرام" رداً على انتقاد السوريين للمبادرة، بأن الفريق تواصل مع الأمن العام من أجل هذه المبادرة التي بدؤوا فيها بعد أخذ كامل الأدلة والاستقصاءات كاملة.
وأضاف: جرى العمل فقط داخل زنزانة واحدة لكي يرى العالم أن عهد الظلم ولى وعهد الحب جاء.
وأشار دالاتي، خلال رده، إلى أنّ هذا المكان سوف يعاد تأهيله من قبل الأمن العام وسوف يتحول من سجن كان يخاف منه السوريون إلى مؤسسة حكومية تساهم في خدمة الشعب، وذلك بعدما جرى توثيق كل الأدلة.
من جهتها قالت نعمة حسينو، في منشور حذفته لاحقاً من على صفحتها في فيسبوك، حول المبادرة: "التجربة يلي عشناها جداَ مميزة ومستحيل تخيلت بيوم من الأيام إني أرسم بهيدا المكان، زنزانة فرع الأمن السياسي في اللاذقية".
وحول الهدف من تلك الخطوة، أوضحت حسينو، بأنها "رسالة لكل العالم بأن شباب سوريا رسموا في سجون ومسالخ النظام السوري البائد جداريات سلام ودفئ تأكيداً على إصرار الشعب العظيم للعيش في سلام".
وشكرت حسينو "شباب الهيئة" على حسن تعاملهم وترحيبهم بـ"سواعد الخير".
تحريف ونفي
الصحفية السورية لونا وطفة، التي عملت على ملف المعتقلين لسنوات، تواصلت مع "سواعد الخير" وطلبت منهم عدم طمس الأدلة.
ليكون رد الفريق بأن الصفحي السوري يزن فويتي حصل على موافقة من حكومة تصريف الأعمال السورية لبدء المبادرة، ودخلوا المبنى مع عناصر من الهيئة وعناصر من الدفاع المدني.
وقالت "سواعد الخير" إن المكان الذي دهن ليس سجناً وإنما قاعة انتظار.
حكومة تصريف الأعمال تتابع
تواصلت روزنة مع وزارة الإعلام لدى حكومة تصريف الأعمال السورية للاستفسار عما حصل، وحول كيفية حصول فريق "سواعد الخير" على التصريح، لتوضح أنها تتابع الأمر وتتأكد مما حصل.
وقالت:"نتابع حالياً الأمر لمعرفة من منحهم التصريح وكيف تم الأمر".
كيف ردّ الحقوقيون؟
أثار الفيديو ردود أفعال غاضبة بين السوريين عامة، وبين الحقوقيين خاصة، في ظل السعي لمعرفة مصير المعتقلين، حيث تعتبر السجون جزءاً من الأدلة الشاهدة على سنوات من الاعتقال التعسفي لآلاف السوريين.
المعتصم الكيلاني، خبير قانوني في حقوق الإنسان والقانون الجنائي الدولي، قال ، إن طمس الأدلة في مسرح ارتكبت فيه جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية يعتبر "جريمة" تهدف إلى محو آثار الانتهاكات الجسيمة وحرمان الضحايا وذويهم من حقهم في العدالة.
وأوضح الكيلاني عبر حسابه في منصة "انستغرام"، إنّ تلك الجريمة لا تقتصر على محو الأدلة المادية مثل الوثائق أو البقايا، بل تمتد إلى محو الذكريات والشهادات التي تحملها تلك الأماكن، مما يُسهم في طمس الحقيقة ومنع العالم من رؤية حجم المعاناة التي وقعت.
وتساءل: "كيف يُسمح لأولئك المتورطين أو المتواطئين بالدخول إلى مواقع السجون والمعتقلات، والعبث بما تبقى من معالمها؟".
واعتبر الكيلاني أنّ محو هذه الآثار "اعتداء آخر على الضحايا وكأنهم يقتلون مرتين، مرة حين تعرضوا للانتهاكات، وأخرى حين تُمحى ذكرياتهم من الوجود".
وشدد الحقوقي أنه "يجب أن تبقى هذه الأماكن حية في الذاكرة الجماعية كرمز للصمود وكمصدر للشهادات التي تدين مرتكبي الجرائم".
كذلك اعتبر الكيلاني أن تلك الخطوة تهدف إلى "حماية المجرمين من المحاسبة ومنع المجتمعات من تحقيق السلام القائم على الحقيقة والمصالحة".
"كتابات المعتقلين توثيق لأوجاعهم"
جمال سعيد، معتقل سابق، علّق على مبادرة سواعد الخير قائلاً: "كانت كتاباتي بقطعة نقود من فئة فرنكين على جدار الزنزانة رقم 9 طريقة في محاربة التتالي الميت والبارد للزمن، وتوثيقا يومياً للعزلة والوجع".
وأضاف: "تركت للسجين الذي سيدخل الزنزانة بعدي شيئاً من تجربتي وشيئاً من روحي، أشعر أن عملية الدهان والطمس، على سبيل التجميل ربما، أخذت معها شقفة من روح أي معتقل اقتيد الى تلك الزنزانات".
أوقفوا طمس الأدلة
وأطلق ناشطون سوريون عبر منصات التواصل الاجتماعي وسماً تحت اسم "أوقفوا طمس الأدلة" طالبوا خلاله بمحاسبة أفراد الفريق وإحالتهم للتحقيق، ومحاسبة أيضاً من منحهم التصريح لبدء العمل بالمبادرة.
عامر قنواتي، اعتبر على فيسبوك، أن السماح بمبادرة هدفها التلوين والرسم على حيطان أحد المعتقلات ليس خطأ فردياً، بل هو خطأ ينضم إلى ما وصفه بـ"قافلة الأخطاء الفردية المفتوحة".
وأضاف: "دهنتوا السجن يلي كان مسرح جريمة ودفنتوا أشياء قد تكون أدلة، شو بده يصير بعدين؟ متحف تزور الناس رسماتكم الحلوة على الحيطان؟ يتصفنوا برسماتكم ويتخيّلوا كيف كانت أصوات التعذيب؟".
أما مزنة أصلان، قالت عبر فيسبوك: "لم نشاهد مبادرات تحمي السجون أو الأدلة التي فيها، نرى مبادرة راحت تلحق تريند على حساب محو آثار المعتقلات والسجون بحجة دهانها".
وتساءلت: "هل انتهيتم من دهان المدارس وبقي عندكم السجون فقط؟" وختمت منشورها بالمطالبة بـ"حماية الأدلة".
شام داوود، تساءلت قائلة: "من الجهة المسؤولة عن حراسة الأفرع والمعتقلات وتأمينها؟".
ومنذ سقوط النظام السوري السابق في الثامن من كانون الأول الفائت، أثار تعامل إدارة العمليات العسكرية مع السجون والمعتقلات، انتقاداً واسعاً، وسط الفوضى والسماح لدخول صانعي المحتوى وعائلات المختفين قسراً بالبداية دون ضوابط.
ذلك أدى إلى إتلاف أوراق ووثائق في المعتقلات والسجون، والتي انتشر بعضها بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، في خطوة انتقدها حقوقيون.
وكان رئيس "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" فضل عبد الغني، صرّح لوكالة "الأناضول" أواخر الشهر الفائت، أن عدد المعتقلين المختفين قسرياً في سوريا بعد إفراغ السجون تجاوز 112 ألفاً، وشدد على ضرورة كشف مصيرهم.
وقال عبد الغني إنّ عدد المفرج عنهم وصل إلى 24 ألفاً و200 شخص، بشكل تقديري، من أصل 136 ألف معتقل ومختفٍ قسرياً، و أنهم غالباً قتلوا.
خطوة لمحاسبة المجرمين
وتُعد عملية حفظ الأدلة داخل المعتقلات من التدمير خطوة حاسمة لضمان محاسبة المجرمين والحكومات الفاسدة. وتسعى العديد من الدول إلى توثيق الانتهاكات التي تحدث داخل هذه المنشآت لضمان تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة.
وقبل ثلاثة أسابيع طالبت "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" و"منظمة العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش" في بيان موحد، السلطات السورية الانتقالية باتخاذ خطوات عاجلة لتأمين وحفظ الأدلة على الفظائع المرتكبة.
ويشمل ذلك حفظ وثائق حكومية واستخبارية رئيسية ومواقع الفظائع والمقابر الجماعية، في عهد النظام السابق.
وجاء في البيان، أنّ "الأدلة على الجرائم التي خلّفها النظام السابق أساسية في تحديد مصير ومكان عشرات آلاف السوريين المخفيين قسراً على يد أجهزة الأمن والمخابرات سيئة السمعة التابعة للحكومة السابقة، فضلاً عن التحقيق في الجرائم بموجب القانون الدولي وملاحقة مرتكبيها، بما يشمل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية".
أمثلة على جهود حفظ الأدلة
بعد انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أُنشئت لجنة الحقيقة والمصالحة (TRC) قبل 28 عاماً لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان بين 1960 و1994.
ركزت اللجنة على جمع الشهادات من الضحايا والجناة، وساهمت في حفظ الأدلة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، ووفق موقع "britannica.
كانت اللجنة نتيجة لتسوية سلمية بعد إطلاق سراح نيلسون مانديلا وإلغاء حظر حركات التحرير، مما أنهى صراعاً استمر لأكثر من 300 عام وأدى إلى أول انتخابات ديمقراطية في البلاد.
تلقت اللجنة 22 ألف شهادة من الضحايا، وعقدت جلسات استماع علنية، ومنحت عفواً مشروطاً لأكثر من 1,500 شخص.
واعتُبرت اللجنة نموذجاً دولياً ناجحاً للمصالحة، حيث جمعت بين العدالة والسلام، وأرست أسساً للمساءلة وبناء مجتمع متصالح.
كذلك أنشأت في تيمور الشرقية، بعد استقلالها، في أيار عام 2002، "لجنة الحقيقة والمصالحة" لجمع الأدلة والشهادات حول الانتهاكات التي حدثت خلال فترة الاحتلال الإندونيسي. وساهمت هذه الجهود في توثيق الأدلة وحفظها لمحاسبة المسؤولين.
وفي سيراليون، أنشأت المحكمة الخاصة بسيراليون لجمع الأدلة والشهادات حول الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية، كذلك ساهمت هذه المحكمة في توثيق الأدلة وحفظها لمحاسبة المسؤولين.
ويعتبر "حفظ الذاكرة" من أهم آليات مسار العدالة الانتقالية في البلدان التي تشهد انتقالاً من حالة الحرب إلى السلم أو الاستبداد إلى التحول الديمقراطي.