دمشق بعد 14 عاماً.. القليل من التغيير والكثير جداً من الشوق

دمشق بعد 14 عاماً.. القليل من التغيير والكثير جداً من الشوق

تقارير وتحقيقات | 6 01 2025

نور الدين الإسماعيل

منذ هروب بشار الأسد، باتت دمشق مقصداً للسوريين، خصوصاً أولئك الذين لهم فيها البعض أو الكثير من الذكريات، وأنا منهم، إذ كنت أنتظر عطلتي لأزورها بعد 14 عاماً، وأنا الذي عشت فيها ستة أشهر فقط، أثناء الخدمة الإلزامية.

الوصول إلى دمشق من إدلب يعني العبور في محافظات حماة وحمص، وهي التي كانت كدمشق، بعيدة المنال عنا نحن أهالي إدلب، بعد أن عشنا حصاراً خلال سنوات الثورة السورية.

الرحلة الحلم

انطلقت سيارتنا من مدينة إدلب مساءً، عابرين مدن سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون، تلك المدن التي دمرتها قوات النظام السوري السابق قبل انسحابها، فكانت رؤية تلك المدن بعد سقوط النظام لا تقل بهجة عن رؤية مدينتي كفرنبل.

على مشارف حماة بدأت أحاول استعادة الذاكرة، وكأنها المرة الأولى التي أسير فيها على ذلك الطريق.

لا جديد في المشهد، إلا أن هناك شعور بالتغيير، فلا صور لـ"القائد المفدى" ولا لوالده "الخالد"، كما كان الأمر سابقاً، فكل شيء كان يذكرنا بعائلة الأسد.

وباتجاه دمشق، واجهتنا شاخصة مرورية تنبهنا للدخول في مدينة الرستن، نتيجة تضرر جسر الرستن إثر غارات جوية روسية استهدفت الجسر بشكل مباشر وتسببت بإحداث أضرار فيه.

وعبر تطبيق "خرائط غوغل" كنت أتفحص المناطق التي تردد اسمها خلال سنوات الثورة السورية كثيراً، فعلى يسار الطريق مطار الشعيرات، وإلى الشرق منه مطار التيفور (T4)، وهنا استهدفت غارات جوية إسرائيلية منطقة تحويلة حمص من جهة دمشق.

وأكثر ما كنت أتشوق لرؤيته مكان تمثال حافظ الأسد في دير عطية الذي بات من الماضي، بعد تحطيمه إثر هروب بشار، وحين وصلت المكان بدا المشهد رهيباً، وهو الذي كان منتصباً على قمة الجبل، مواجهاً لطريق الأوتُستراد الدولي.

"دمشق ترحب بكم"

الشاخصة التي انتظر ملايين السوريين رؤيتها بالعين المجردة، باتت حقيقة أمامنا. بقايا حاجز سابق لقوات النظام السوري تشير إلى معركة دارت حوله تسببت بتدميره، وكل ما تبقى في المكان أعمدة محترقة وسقف معدني خَرِب.

وباتجاه مركز المدينة توجهنا وقد بدأت المشاعر المختلطة تسيطر علينا.

فرح كبير يقابله رهبة المكان، فهي المرة الأولى التي أزور فيها دمشق بلا حكم الأسد، ولا صور العائلة التي كانت تملأ الشوارع لتحافظ على مستوى الترهيب والخوف في نفوس السوريين، وتذكرهم بأنهم مراقبون حتى في الطرقات.

جولة قصيرة في شوارع المدينة لاسترجاع بعض الذكريات، فحجارة المنازل القديمة تشير إلى عدم وجود تغييرات جوهرية في المدينة، كل شيء على حاله، إلا أمراً واحداً، وهو الأهم، دمشق بلا بشار الأسد.

وجوه مبتهجة

بتنا ليلتنا وانطلقنا صباحاً لزيارة أهم معالم المدينة، وهي المناطق التي كانت منذ القدم مقصداً للسياح وطالبي التعرف على تاريخ المدينة، فكان سوق الحميدية الأثري أولها.

ازدحام شديد، بالكاد يمكنك العبور، باعة في محلاتهم يروجون لبضائعهم، وآخرون يتوسطون الطريق المسقوف وسط السوق، حتى أن ذلك المشهد ذكرني بالازدحام أيام عيد الفطر عام 2006، خلال خدمتي الإلزامية، حين كنت أتردد إلى المكان.

بائع ألبسة في سوق الحميدية أخبرنا أن "الحياة عادت إلى دمشق" بعد سنوات طويلة من المعاناة والركود وتوقف الحركة التجارية، "الآن كل شيء مختلف، البهجة تملأ النفوس، يكفي، لقد تعبنا، نحن نستحق الحياة والبهجة"، قال البائع.

وصلنا إلى بوابة الجامع الأموي، شحنات هائلة من القدسية ورهبة المكان، رائحة التاريخ العريق تفوح في الأرجاء، وكأن حجارته العتيقة تتحدث إلينا: "تتغير حكومات، وتزول دول، ويذهب ملوك وحكام يأتي غيرهم ثم يرحلون، لكن الحجارة صامدة بجذور أهلها الممتدة إلى مئات السنين".

مع دخولنا إلى ساحة الجامع، كل شيء من حولنا يوحي بعظمة المكان، القبب، واللوحات الفسيفسائية، والمآذن التاريخية، كلل تلك الأجواء انطلاق أذان الظهر من مكبرات الصوت في الجامع، لتحلّق بك في عوالم من التاريخ والجمال ممزوجة ببهجة رحيل الأسد.

على مقربة مني كان رجل دمشقي عاش مهجراً، يتحدث إلى طفله عن موضأ قديم وسط الساحة، حين كان الدمشقيون يتوضؤون هنا عبر أنابيب المياه الموزعة ضمن دائرة حجرية حيث تبدو فوهات الأنابيب المغلقة بسدادات معدنية، لا أدري متى توقفت عن ضخ المياه.

وضمن سياج زجاجي تحت سقف، تقف آلة خشبية ضخمة، استخدمها العثمانيون في رفع الأحجار الضخمة والأعمدة أثناء ترميم الجامع الأموي عام 1893.

دمشق القديمة

عبر زقاقات تاريخية مرصوفة وضيقة من خلف الجامع الأموي، توجهنا قاصدين مقهى النوفرة الشهير الواقع في الجهة الخلفية الجنوبية للجامع الأموي، لنعيش لحظات من التراث الممزوج بعبق التاريخ، بنكهة الحاضر.

على الطرف الأيمن للزقاق المقابل لجدار الجامع الأموي امتدت محلات "الشرقيات"، قطع خشبية مزخرفة، وأقمشة تراثية وبسط، صناديق خشبية وهدايا، تسحر الناظرين وتشدهم للشراء.

قال لنا بائع شرقيات: "كان الركود قاتلاً، حتى أن معظمنا فكر في تغيير مصلحته، فمن يشتري التحف والنحاسيات وهو لا يملك ثمن الخبز؟ لقد انتظرنا طويلاً أن تعود سوريا لأهلها، حتى تعود الحياة إلينا جميعاً".

زيارة سريعة إلى مقهى النوفرة، أعقبها زيارة إلى باب توما وباب شرقي وساحة المرجة وسط العاصمة دمشق.

"من قاسيون أطل يا وطني"

قبل غروب الشمس، توجهنا إلى جبل قاسيون، لنعاين الغروب من قمة الجبل الذي ارتبط اسمه بدمشق كما ارتبطت دمشق به على مر العصور.

عبر طريق دمّر وصرح الجندي المجهول انعطفنا يميناً باتجاه قمة جبل قاسيون، كان الازدحام كبيراً فأرتال سيارات الأهالي التي تتسلق الجبل ببطء، تعيقها أرتال أخرى منسابة منه للمغادرين.

وعند أول قمة مطلة على مدينة دمشق، توقفنا، لنعيش لحظة انتظرها الكثيرون، بعد 14 عاماً، وأول ما يتبادر إلى الذهن أغنية المطربة اللبنانية دلال الشمالي التي كتبها الشاعر خليل الخوري: من قاسيون أطل يا وطني ... فأرى دمشق تعانق السحبا.

منظر مهيب، ربما يصعب شرحه لمن لم يعش تلك اللحظة مع غروب الشمس.

دمشق أمام عينيك، بأبنيتها القديمة والحديثة، بمعالمها، بسحرها وجمالها، وبالمقربة منك منازل أحياء ركن الدين والمهاجرين التي تبدو كعاشق يتسلق الجبل ببطء ليلتقي بحبيبته فوق قمة الجبل.

ومع غروب الشمس الساحر من قمة قاسيون، بدا القصر الجمهوري (قصر الشعب) شامخاً حيث صار بإمكان الأهالي النظر نحوه، وتصويره بعد سنوات من الخوف، حيث كانوا ممنوعين من زيارة قاسيون منذ بداية الثورة، لأنها المنطقة باتت منطقة عسكرية.

على مقربة منا، لفت انتباهي عائلة سورية مبتهجة على صوت جهاز "MP3"، وفتاة يافعة تدير وجهها إلى دمشق، تتمايل وهي جالسة على ألحان أغنية شعبية "لبّت لبّت ها ها ها".

ومع انتهاء الأغنية، بدون أي فاصل، بدأت السيدة أم كلثوم بأغنيتها الشهيرة "أنت عمري" بينما كانت الفتاة مستمرة في تمايلها رغم تغير الإيقاع واللحن، لكن الفرحة والمشاعر واحدة.

الباعة المتجولون منتشرون في المكان، فهذا يبيع الذرة المشوية، وآخر يبيع الحلويات، وإلى جانبه سوبر ماركت متنقل، وغيرها من بسطات المأكولات السريعة، وجلسات يمكن للزائرين التمتع بها بمواجهة دمشق، بعد استئجار كرسي بلاستيكي بـ5 آلاف ليرة سورية.

صدفة غير متوقعة

مساءً، توجهنا إلى مقهى الروضة الشهير في دمشق، إلا أننا تهنا وأضعنا الطريق لندخل في حارات بعيدة عن المقهى، فترجلنا من السيارة وقررنا المتابعة سيراً على الأقدام.

وبينما نحن نتحدث كان هناك رجل وامرأة يشقون طريقهم سيراً في الظلام، فلا كهرباء في المدينة حتى الآن، رغم الوعود الكثيرة بتحسين واقعها.

يا إلهي، وجه الرجل مألوف لي جداً، إنه صديقي، صديقي الكاتب ماهر مسعود، الذي أمضينا ستة أشهر معاً في الخدمة العسكرية الإلزامية، برفقة زوجته، هما أيضاً أضاعا الطريق فدخلا من طريق مختصر قادهما إلينا.

جميعنا توجهنا إلى مقهى الروضة، لنعيش لحظات من البهجة والسعادة لم تكن تخطر في بالنا طيلة سنوات الألم والمعاناة والغربة والقهر، قال لي ماهر ممازحاً: "الحمد لله أنك مازلت على قيد الحياة، كنت أخشى أن ترحل قبل أن تعيش هذه اللحظة".

نهاية الرحلة

في ثالث أيام إقامتنا في دمشق، تجولنا في ساحة الأمويين حين اجتمع عدد من السوريات والسوريين ليحتفلوا معاً على أصوات أناشيد الساروت (عبد الباسط الساروت منشد الثورة السورية).

وبنظرات الوداع تركنا مدينة دمشق، باتجاه ريف دمشق الجنوبي، عبر السبينة وحجيرة ومنطقة السيدة زينب وصولاً إلى المتحلق الجنوبي غادرنا دمشق، إلا أنها لم تغادرنا حتى الآن، لأنها مازلت تعيش في داخلنا سحراً جميلاً طالما انتظرناه طويلاً.

بودكاست

شباب كاست

بودكاست مجتمعي حواري، يُعدّه ويُقدّمه الصحفي محمود أبو راس، ويُعتبر منصة حيوية تُعطي صوتًا للشباب والشابات الذين يعيشون في شمال غرب سوريا. ويوفر مساحة حرّة لمناقشة القضايا والمشاكل التي يواجهها الشباب في حياتهم اليومية، بعيدًا عن الأجواء القاسية للحرب.

شباب كاست

بودكاست

شباب كاست

بودكاست مجتمعي حواري، يُعدّه ويُقدّمه الصحفي محمود أبو راس، ويُعتبر منصة حيوية تُعطي صوتًا للشباب والشابات الذين يعيشون في شمال غرب سوريا. ويوفر مساحة حرّة لمناقشة القضايا والمشاكل التي يواجهها الشباب في حياتهم اليومية، بعيدًا عن الأجواء القاسية للحرب.

شباب كاست

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط “الكوكيز” لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة.

أوافق أرفض

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط “الكوكيز” لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة.

أوافق أرفض