سجون الأسد... حيث لا تُشرق الشمس!

سجون الأسد... حيث لا تُشرق الشمس!

مدونات | 10 12 2024

باسكال صوما

في هذا المكان لا يصل الضوء ولا الهواء ولا حتى عتمة الليل كما نعرفها، للعتمة هنا وقع الأبد.

في هذا المكان لا تشرق الشمس ولا تغيب، لا يُعرف الصيف من الشتاء ولا الربيع من خريف الفصول أو العمر. المرايا غير متوفرة أيضاً ليعرف المرء إذا ما كان كبر أو تورّم من وقع الضرب، أو طالت لحيته أو قصرت... غير مهم.

هنا يتجمّد الزمن، تصبح الأسماء أرقاماً، والأجساد منفى. إنها سجون نظام الأسد في سوريا. وليس من باب العبث أن كان السجناء ينقلون إلى تلك الأقبية على وقع أغنية "ابتدا ابتدا المشوار" لعبد الحليم. إنه مشوار القتل البطيء والقهر والتنكيل.

لقد قرأت علي أبو الدهن، المعتقل اللبناني السابق، قرأته منذ سنوات، لكنني في لحظات ما، اعتقدت أن الرجل يبالغ في ما رواه في كتابه "عائد من جهنم" حيث تحدث عن الكثير من صنوف التعذيب والقهر. سامحني يا علي، سامحني يا صديقي، لم تكن تبالغ، كنتَ فقط تروي بعض ما عشته وبعض ما عاشه آلاف المعتقلين رفاق ذاك الدرب، الذين ربما ما زال الكثير منهم في تلك الأقبية والسراديب التي لم تستطع فرق الإنقاذ الوصول إليها حتى الآن.

إنه صباح من البكاء الطويل، البكاء الذي تحتاجه أجسادنا وأرواحنا حتى نشفى ونصدّق... لقد سقط بشار الأسد، وفتحت السجون وخرج المعتقلون إلى الضوء، بعدما كانوا يعتقدون أنهم غادروا زمن الضوء إلى غير رجعة.

فرحة السوريين العائدين إلى سوريا عند معبر المصنع الحدودي، وأولئك العائدين إلى عائلاتهم بعد سنوات من السجن، تجعل المرء يستعيد إيمانه بالحياة وبحق الشعوب بتقرير مصيرها، مهما طالت أزمنة الاستبداد، ومهما بدت النجوم بعيدة.

في أحد الفيديوات المتداولة في سجن للنساء، في صيدنايا، ظهرت نساء عاجزات عن مغادرة سجونهنّ، بعد فتح الأبواب، كن غير مصدّقات أنّ هذه حقيقة وليست حلماً. كن ضائعات، خائفات، فيما كان رجال المعارضة يفتحون الأبواب ويدعونهن للخروج بسرعة. إحدى السيدات قالت: "بس مضيعة هويتي!".

وسألت أخرى عن مكتب الأمانات. كانت تلك الأسئلة مجرّد تعبير عن العجز عن التصديق، فـ"الخارج مفقود والخارج مولود".

لقد كتبت مقالات وتحقيقات كثيرة عن النظام وناسه المظلومين، لكنني أعتقد أنني قصّرت كثيراً، خذلتني توقعاتي، فبرغم المآسي التي كتبتها، والحكايات التي سردتها عن ناس حُرموا من أبسط حقوقهم، فقد تبيّن لي أنني بالكاد وصفتُ مشاهد بسيطة من المحرقة الأسدية الممتدّة على 50 عاماً. تبيّن لي أنني لم أفهم اللاجئين السوريين الذين التقيتهم بما يكفي، برغم أنني أعمل على قضاياهم منذ سنوات. وقد أدركت أن معاناة أهالي المفقودين والمخطوفين اللبنانيين في سوريا أكبر مما كنتُ أعتقد وأقسى وأفظع.

أقبية وسراديب مشفّرة، بعضها فُتح، فيما الكثير منها ما زال مقفلاً ويقبع تحته بشر منسيون تماماً، لا سيما أن معلومات وتقارير كثيرة تحدثت عن سجون غير رسمية، لا يُعرف لها مكان. وبعد مغادرة السجّان الآن، من يفكّ الشيفرة ويفتح الأبواب أو يبلغ عن مكان تلك الزنازين، غير الموجودة على خريطة العالم وإحداثياته. إنها أماكن لا يدري بها إلا مرتكبوها، صانعو العتمة، قاتلو الضوء، أعداء الحياة.

لبنانيون وسوريون وعراقيون وفلسطينيون وغيرهم، بشر قرر نظام الأسد قتلهم ألف مرة قبل الموت النهائي، مرة بوضعهم تحت الأرض، ومرات بابتكار صنوف جديدة من التعذيب والتنكيل، وفي أحيان أخرى عبر تمارين إفقادهم الذاكرة، فكما روى معتقلون محررون، كان يُمنع على السجناء لفظ أسمائهم، إذ عليهم التعريف عن أنفسهم عبر رقم المهجع.

بالفعل نجحت تلك التمارين، لقد تم توثيق حكايات عن سجناء نسوا أسماءهم وعن آخرين فقدوا الذاكرة كلياً، أو علقت ذاكراتهم على مشهد واحد، قد لا يستطيعون مغادرته، حتى بعدما غادروا الزنزانة وتلاشى السجّان.

فرّ الأسد إلى روسيا، فرّ من دون أن يقول أي شيء، لم يلقِ أي بيان أو حتى خطاب يختم به هذه المسيرة الأسدية الطويلة الممتدة على نحو 50 عاماً من القهر للسوريين واللبنانيين على السواء. فرّ بكل جُبن ولم يفتح فاه ولم يعتذر أو ينظر إلى سوريا التي دمّرها وأحرق قلوب أهلها. كل الأماني بأن يكون "الستالايت" في بيته الروسي الفاره، متصلاً بمحطات تنقل الاحتفالات الشعبية برحيله، وتبث لحظات تكسير جدرات سجن صيدنايا "الأحمر". وإن كان يصعب تصديق أنّ رجلاً كبشار الأسد قد تدمع عيناه حين يرى كم يكرهه شعبه وكم أن لحظة سقوطه هي انتصار للجميع، بما فيهم حلفاؤه. 

بودكاست

شباب كاست

بودكاست مجتمعي حواري، يُعدّه ويُقدّمه الصحفي محمود أبو راس، ويُعتبر منصة حيوية تُعطي صوتًا للشباب والشابات الذين يعيشون في شمال غرب سوريا. ويوفر مساحة حرّة لمناقشة القضايا والمشاكل التي يواجهها الشباب في حياتهم اليومية، بعيدًا عن الأجواء القاسية للحرب.

شباب كاست

بودكاست

شباب كاست

بودكاست مجتمعي حواري، يُعدّه ويُقدّمه الصحفي محمود أبو راس، ويُعتبر منصة حيوية تُعطي صوتًا للشباب والشابات الذين يعيشون في شمال غرب سوريا. ويوفر مساحة حرّة لمناقشة القضايا والمشاكل التي يواجهها الشباب في حياتهم اليومية، بعيدًا عن الأجواء القاسية للحرب.

شباب كاست

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط “الكوكيز” لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة.

أوافق أرفض

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط “الكوكيز” لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة.

أوافق أرفض