مدونات | 8 06 2024

كما كنا صغاراً، وكغيرهما من الأطفال الذين ينتظرون رحلتهم المدرسية صباحاً، فارق النوم عيون الطفلتين الشقيقتين راما وفاطمة، وهما يحلمان بتفاصيل رحلة الغد، واللحظات التي سيقضيانها في المسبح الذي سيتوجهان إليه مع والدتهما ورفاقهما في الصباح.
الطفلتان اليتيمتان اللتان فقدتا والدهما بعد اعتقاله في معتقلات النظام السوري ووصول أنباء عن وفاته تحت التعذيب ضمن المعتقل، كانتا تعيشان مع والدتهما التي تعمل في مدرسة للأيتام بمخيم الزوف بريف جسر الشغور الغربي.
حياة الطفلتين في المخيم حرمتهما أن تعيشا كما يعيش عدد كبير من أطفال بلدهما والعالم، فهما لا تتذكران تفاصيل منزل العائلة قبل التهجير، كما أنهما لم تزورا بحراً في حياتهما، ما جعل من رحلتهما المرتقبة إلى المسبح في مدينة دركوش حلم حياتهما المنتظر.
ولأن سكان هذه المنطقة لم يعتادوا ممارسة الفرح، كان هناك ما يشغل بال والدتهما قبل الرحلة، بالرغم من أنها سترافقهما خلالها، إلا أن شيئاً ما داخلها لم يكن مرتاحاً، وفق محادثة قبل يوم من الرحلة سربتها صديقتها بعد وقوع الحادثة.
رسالة متداولة من صديقة المستخدمة في المدرسة هيام والدة الطفلتين راما وفاطمة، والتي توفيت بالحادث
الرحلة الأخيرة!
بعض الأمهات الفرحات لفرح أبنائهنّ ودعهنم قبل صعودهم إلى الحافلة، وبعضهنّ لا يعلمن أنه الوداع الأخير، في رحلة الموت التي ستنتهي بهم جثامين هامدة.
تلويحٌ للحافلة وركابها الصغار ومعلماتهم، من قبل الأهالي تتراقص معها قلوبهم، فقد انتهى العام الدراسي ولا بد من تكريم المتفوقين برحلة صيفية، من المفترض أن تكون ممتعة.
غادرت الحافلة المخيم، وعادت الأمهات لمتابعة أعمالهن ضمن خيام لا يمكن أن نطلق عليها توصيف "منزل"، إلا أنهنّ حولنها إلى مساكن دافئة تنبض بالحياة.
بينما تنساب الحافلة في الطرقات الجبلية، كان الأطفال يتبادلون الخطط حول ما سيقومون به في المسبح، فطفل وصديقه قررا تبادل "الزوادة" في حين قررت طالبة وصديقتها إقامة مائدة مشتركة مكونة من بعض أكياس الشيبس الرخيصة الثمن وعلب المياه الغازية، والقليل من البسكوت.
جميع تلك الخطط والأحلام الصغيرة بالنسبة للصغار لم تتحقق، فيبدو أنه كتب على هذه البقعة الجغرافية النائية الحزن والألم وتوديع الأحبة على حين غرة، وكأنه قدر يرافق أهلها حتى أثناء محاولتهم سرقة بعض الفرح من بين تلال الألم.
انزلاق وتدهور
في لحظة من الفرح العارم الذي يعيشه أطفال الحافلة، ضحكات وابتسامات، ذهول بمشاهد الطبيعة البكر، باغت عطل فني في الحافلة ركابها في أحد المنحدرات بمنطقة دركوش، تسبب بتدهور الحافلة مئات الأمتار قبل أن تستقر على حافة نهر العاصي.
أخبرنا شاهد عيان كان في المكان بأن صوت ارتطام الحافلة بالصخور أثناء تدهورها اختلط بأصوات صرخات الأطفال ومعلماتهم، في مشهد أكد الشاهد أنه لن ينساه طوال حياته.
أجساد غضة طرية مسجونة بين حديد الحافلة وصخور الجبل التي لم ترحم صلابتها تلك الأجساد، فسحقت ما سحقت منها، وقد تناثر الأطفال بين الصخور، وآخرون سحبتهم مياه النهر الجارفة.
كم هي قاسية الطبيعة، لا ترحم، لا تميز بين بريء وغيره، ولا تملك من المشاعر ما يمنعها من أن تفعل ما فعلته، فنالت بصخورها ومائها ومن الأجساد الغضة، والتي فارق بعض أصحابها الحياة، ليختموا آخر مشهد من مشاهد المسرحية التراجيدية التي بدؤوها منذ ولادتهم.
التوجه للمكان
عملي الصحفي لا يتطلب مني التغطية الميدانية، وبالأساس كنت في عطلة نهاية الأسبوع، إلا أنني ومنذ ورود المعلومات الأولى للحادثة أحسست برغبة جامحة في التوجه للمكان، إلى الآن لا أعرف ما هو السبب.
اتصلت بصديقي الصحفي الميداني، وانطلقنا على الفور، لنكون خلال ساعة من الزمن أمام مستشفى الرحمة في دركوش، والذي كان يستقبل الجرحى والمصابين.
مئات من الأهالي والمسعفين والطواقم الطبية وطواقم الإسعاف تجمهروا في المكان، جلبة وأصوات وصراخ، يتفوق عليها جميعاً أصوات سيارات الإسعاف، كل ذلك يقطعه وصول جثة طفلة بسيارة إسعاف، وصلت لتوها من مكان الحادث، ليسود صمت رهيب.
يا إلهي ما أشد ضعفي وأنا الذي كنت أحسب أنني اعتدت على مشاهدة المآسي خلال 13 عاماً، لست قادراً على النظر نحو جثة تلك الطفلة، أحاول التهرب والابتعاد، وقفت تحت ظل سقف معدني هارباً من حرارة الشمس وقساوة المشهد، ليتسرب إلى سمعي حديث عابر بين امرأتين مراجعتين في المستشفى تنتظران في الخارج: "يا قلبي قال كلهم أيتام".
خنقتُ رغبة كبيرة بالبكاء، قاومت، ابتعدت عن المرأتين كي لا أسمع أكثر، لأصادف صديقي الإعلامي العامل الموظف في المستشفى، وعلى عجالة دون أسأله، قال حتى الآن استقبلنا 4 وفيات و16 إصابة، إنها كارثة، ثم غادر ليتابع في الداخل العمليات الجراحية.
صرخات أمهات يبحثن عن أطفالهن داخل بهو المستشفى كانت كفيلة بأن تتغلب على كبريائك ومقاومتك للبكاء، وهل كان عيباً أن أبكي؟ لا أظن، فكل من كان في المكان بكى.
مضى بعض الوقت، ثم توجهنا بين الجبال المرتفعة على ضفاف نهر العاصي، لنصل إلى مكان تدهور الحافلة، صادفنا خلالها سيارات الدفاع المدني والإسعاف التي نقلت آخر المصابين.
شبان من الضفادع البشرية كانوا منهمكين بالبحث عن مفقودين ضمن مياه النهر، فلا تتوفر إحصائية كاملة لعدد ركاب الحافلة، ما يجعل البحث عن مفقودين أمراً حتمياً لتأمين المكان، بينما كانت رائحة الديزل وزيت السيارات تخرش الأنف بعد تسربها إلى مياه النهر، من الحافلة التي استقرت على حافته.
الصحفيون منشغلون بالتقاط الصور لبقايا الحافلة وتوثيق الحادث، والحصول على شهادات من عمال كانوا متواجدين في المكان، بينما وقفت وحيداً أفكر في كل شيء، دون أن أتمكن من التركيز في أيّ شيء محدد.
بقايا الزجاج المحطم، وآثار الدماء، والأشجار المكسرة نتيجة تدهور الحافلة، وبجانبي شرطي يتحدث لشاهد عيان في حديث جانبي غير رسمي، أخبره الشاهد بأنه ما زال يعيش هول الصدمة، إنها فاجعة.
كيف يمكن لكل هذا الجمال الذي شكلته الطبيعة أن يتحول إلى قاتل لئيم لا يرحم، لقد فقَدَ المكان سحره بعد أن تحول إلى ذلك المجرم الذي سرق أرواح عدد من الأطفال وأمهاتهم، بينما حول الباقين إلى مصابين يتجرعون مرارة الألم، وهم لا يحتملونه.
أنهى رفاقي إعداد تقاريرهم الصحفية، وتجمعنا من جديد في نقطة الانطلاق للعودة إلى المنزل، في الوقت الذي أعلن فيه الدفاع المدني السوري أن الحصيلة النهائية للقتلى 7 أشخاص، وقد بلغ عدد المصابين 20 آخرين.
وصلت المنزل وعدت لمتابعة الأخبار لأعرف الجديد، فأرسل مصدر طبي قائمة بأسماء القتلى والمصابين، حيث ورد من بين تلك الأسماء إصابة راما وفاطمة وتحويلهما إلى المستشفى القريب من منزلي في إدلب، بينما فقدت والدتهما الحياة نتيجة الإصابة، ولحقت بوالدهما تاركة إياهما وحيدتين تتابعان حياة الألم والفقد واليتم المضاعف.