في وسط النهار، تحت الشمس الحارقة، يتحسّس عبد الله (40 عاماً) من سوريا ومن معه من المهاجرين غير الشرعيين، ما تبقى لهم من المياه بسرعة خاطفة، داخل سيارة "تهريب" مكشوفة، وهي تشق طريقاً صحراوياً محفوفاً بالمخاطر، من السودان إلى مصر، في رحلة تستغرق ثلاثة أيام، هرباً من "جحيم الحرب" في السودان.
حاول عبد الله الصمود تحت أشعة الشمس، لكن حرارتها أصابته فأغمي عليه خلال الرحلة، أما زوجته الحامل في شهرها الأخير وطفليه جلسوا جانب السائق، وحشر هو مع أكثر من عشرة مهاجرين، ازداد عددهم لاحقاً بعد عثورهم على عدة عائلات انقطع بهم الطريق وسط الصحراء لأيام، بعدما تعطّلت سيارتهم.
الهرب من الموت إلى "طريق الموت"
وصل عبد الله وعائلته قبل أسبوع إلى مدينة أسوان المصرية في سيارة خصّصت للهجرة غير الشرعية، قادماً من مدينة بورتسودان على ساحل السودان، هرباً من الحرب في الخرطوم التي دمرتها وحوّلتها إلى مدينة أشباح لا تحتوي سوى على العصابات، كما يقول لروزنة.
"قتل وقصف وحرق وتدمير في العاصمة السودانية الخرطوم" هو ما دفع عبد الله، للمخاطرة عبر ما أسماه "طريق الموت" للخلاص من "جحيم الحرب".
يقول: "نجوتُ من الموت مرتين، الأولى في الخرطوم، والثانية في الرحلة من بورتسودان لأسوان".
ويضيف: " لم يبقَ من السوريين في السودان إلّا المضطر، معظمهم هاجر، أما الخرطوم تدمّرت وأُحرقت وتهدّمت".
واندلعت الحرب في الخرطوم والمناطق المحيطة بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، منذ منتصف نيسان الماضي، وعلى إثرها نزح ولجأ أكثر من 5 مليون شخص داخل البلاد وخارجها، بحسب تقرير للأمم المتحدة، في الـ 13 من الشهر الجاري.
البداية من بورتسودان
خرج عبد الله إلى مدينة بورتسودان الساحلية، التي نزح إليها سابقاً مئات السوريين بسبب الحرب، ومنها اختاروا طريقهم، بشكل شرعي أو غير شرعي، إمّا إلى سوريا أو السعودية أو مصر جواً، أو براً إلى إثيوبيا أو مصر وغيرها من الدول.
اضطر عبد الله للاستدانة من أجل الهجرة إلى مصر، يقول: "خرجت مع زوجتي الحامل في شهرها الأخير، وطفلين إلى بورتسودان في رحلة استغرقت 24 ساعة (بينما في الوضع الطبيعي لا تستغرق سوى 8 ساعات) تخلّلها حواجز وتفتيش، وبتكلفة 300 دولار للشخص، فيما كانت التكلفة قبل الحرب تتراوح ما بين 30 إلى 50 دولاراً".
بعد الوصول إلى بورتسودان، اتفق عبد الله مع أحد المهرّبين السودانيين للخروج في طريق إلى مدينة أسوان المصرية التي تبعد (1.733 كيلو متراً) عن مدينة بورتسودان، بتكلفة بلغت 600 دولار للبالغ وللطفل نصفه.
ويبرر سلوكه هذا الطريق غير الشرعي: "لا قدرة لي على شراء تأشيرة بقيمة 1200 دولار للشخص البالغ، والطفل بألف دولار، إلى مصر، وكأنني سائح أو زائر، بينما أنا لاجئ (…) التكلفة الكاملة قد تصل إلى 6 آلاف دولار، ليس معي منها دولاراً".

أما عن العودة إلى سوريا، التي يخشاها عبد الله خوفاً من اعتقاله "لا يمكنني العودة والمغامرة بذلك" يؤكّد.
معظم الفارين توجهوا إلى "إفريقيا الوسطى، وتشاد، ومصر، وإثيوبيا، وجنوب السودان، وليبيا"، وفق تقرير الأمم المتحدة في الـ 13 من الشهر الجاري.
هاجر عبد الله بسبب الحرب مرتين، في الأولى بسبب المعارك في سوريا، والثانية مؤخّراً بسبب الحرب السودانية، وهو الذي أقام في الخرطوم لمدة 6 سنوات حاول خلالها تأسيس حياة كريمة لعائلته.
اقرأ أيضاً: "هددني العميد! وصدمت بالشام".. عن رحلة هروب من السودان ثم سوريا!
"طريق الموت"
خرج عبد الله وعائلته فيما أسماه "طريق الموت" رغم تحذير الكثيرين له من خطورته.
يشرح لنا: "دعوت الله أن ينجينا من أجل الجنين الذي في رحم زوجتي (...) الطريق محفوف بالمخاطر، صحراوي ترابي مليء بالحجارة المكسرة، لا تستطيع السير فيه إلا السيارة القوية".
ليس فقط الطريق ما عرّضهم للخطر، وإنما السيارة المكشوفة من الخلف، دون وجود حماية من السقوط، أو ما يغطيها من الغبار ورمال الصحراء وأشعة الشمس.
"لا تتوقف السيارة لمدة 3 أيام حتى تصل إلى وجهتها، إلا في حال اضطر السائق لتغيير أو نفخ عجلة السيارة، أو من أجل الحمام، أغمي عليّ بسبب ضربة شمس أصبت بها، أثناء الطريق"، يقول أبو عبد الله.
ويتابع: "أثناء الرحلة ولمدة ثلاثة أيام لم أفعل شيئاً سوى التمسك بشدة بالسيارة التي من الممكن في أي لحظة أن تقلب بسبب السرعة الفائقة".
وعن خطورة الطريق، يقول: "منذ ثلاثة شهور سمعنا عن وفاة عائلة سورية في هذا الطريق بعدما انقلبت بهم السيارة، أما نحن خرجنا من رحم الموت، فيما صديقي استغرقت رحلته أسبوع بسبب تعطل السيارة، ونفدت المياه منهم وكادوا أن يهلكوا من العطش".
وصل عبد الله وعائلته إلى مدينة أسوان ومنها انتقل إلى القاهرة بحثاً عن حياة جديدة، بعيداً عن الحروب ودمارها، علّه يستطيع نسيان الدمار والقصف والنهب في السودان.
يخبرنا بفرح: "رزقتُ مؤخراً بفتاة جميلة بعد وصولي بأيام. أتمنى لها ولنا أياماً هادئة دون ضجيج الحرب".
ووفق تقرير لـ"الشرق الأوسط" إن خطوط تهريب المهاجرين غير النظاميين عبر الصحراء ليست واضحة أو محددة بسبب اتساع نطاق الصحراء بين السودان ومصر، إذ لا توجد ملامح أو علامات مميزة تسهل عملية السير بسرعة نحو مدينة أسوان المصرية، ما يؤدي إلى ضياع وتيه بعض المهربين والمهاجرين في الصحراء سوياً.
وتسمح مصر للسودانيين بالدخول إلى مصر دون تأشيرة مسبقة، وقد دخل المئات، لكن السوريون يحتاجون إلى تأشيرة، وهو ما دفع بالكثيرين ممن ضاقت بهم الحال بسبب الحرب للجوء إلى طريق "التهريب".
ومنذ منتصف نيسان حتى منتصف أيلول وصل أعداد السودانيين اللاجئين إلى مصر 287 ألف سوداني، أكثر من 49 ألف سجلوا لدى مفوضية اللاجئين بالقاهرة، وفق تقرير لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وقبل أشهر نشرت روزنة تقريراً عن هجرة سوريين إلى إثيوبياً هرباً من الحرب السودانية.
اقرأ أيضاً: سوريون لروزنة: إثيوبيا وجهتنا الجديدة هرباً من الحرب السودانية

وبلغ عدد السوريين في السودان مع مطلع الحرب السودانية قبل خمسة أشهر، حوالي 30 ألفاً، بحسب القائم بالأعمال في سفارة النظام السوري لدى الخرطوم بشر الشعار.
الكلمات المفتاحية