تشديد أمني وديني مارسته "هيئة تحرير الشام" على المناطق التي تفرض سيطرتها عليها، حتى ظهر أبو محمد الجولاني متزعم الهيئة يوم أمس، أمام حشد من أهالي المنطقة معلناً سياسة جديدة يطرح فيها تغييراً لقواعد سلوكيات عامة.
تصريح الجولاني جاء خلال لقائه عدداً من الوجهاء والشخصيات السياسية والعسكرية والمدنية في شمالي غربي سوريا، وبحضور رئيس "حكومة الإنقاذ" علي كدة، لتقديم المعايدة لهم بمناسبة عيد الفطر، حيث بثت "مؤسسة أمجاد" التابعة لـ"هيئة تحرير الشام"، مقطع فيديو للقاء.
اقرأ أيضاً: المسحراتي وتوديع رمضان.. عودة بعد منع إلى شمالي سوريا

وهيئة تحرير الشام وهي الفصيل المتشكل من انضمام "جبهة النصرة" مع فصائل عسكرية أخرى، في عام 2017.
بعد إعلان الجولاني انفصاله عن تنظيم القاعدة في عام 2016، مارست "هيئة تحرير الشام" على مدار سنوات سياسة متشددة على الأهالي ضمن مناطق سيطرتها، وتتمثل بمضايقات للنساء في الأماكن العامة، وانتهاكات بحق المدنيين والصحفيين، والتدخل في الحريات الشخصية للسكان، عبر "جهاز الحسبة" الذي تم حلّه في وقت سابق.
كما عمل "جهاز الحسبة" خلال سنوات نشاطه على إجبار أصحاب المحال التجارية على إغلاق محالهم أوقات الصلوات، إضافة إلى اعتراض بعض النساء في الأسواق والأماكن العامة بسبب طريقة ونوع اللباس، وتوجيه نصائح لهنّ تدعوهنّ للنقاب و"اللباس الشرعي".
خطاب الجولاني
وبالعودة إلى خطاب الجولاني قائد "هيئة تحرير الشام"، كان لافتاً كيف حمل خطابه تفنيداً لبعض الأحكام الشرعية، وأبرزها: "ليس من حق السلطة فرض الخِمار (النقاب) على عامة الناس، وأن سلطة التحريم هي عند الله، ولا يمكن للسلطة فرض التحريم إلا في الأمور التي أُجمع على تحريمها".
وبيّن الجولاني للحاضرين أن غطاء الوجه (النقاب) "غير واجب"، وأن الحجاب مكشوف الوجه هو حجاب شرعي، ولا يحق للسلطة فرضه على عامة الناس، لأنه تجاوز منها و"تدخل في العبادات التي ما بين الله وبين العبد".
هذه التصريحات تتناقض مع عدة حوادث تنتهك حقوق النساء، ومنها في عام 2017 حين تشاجرت مجموعة من الداعيات من مكتب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الخاص بالنساء مع امرأة ثلاثينية بسبب لباسها "غير الشرعي"، وتبرجها بحسب معايير مكتبهم.
وتطورت المشاجرة عندما كشفت المرأة نقاب إحدى النسوة الداعيات في المكتب، واستدعاء مسؤول الحسبة في "هيئة تحرير الشام" المدعو "أبو البراء القحطاني"، الذي هاجم المرأة وأسقطها أرضاً، قبل أن يستمر بضربها وركلها أمام المارة المدنيين، في سوق المدينة، دون أن يتمكنوا من تخليصها.
أسباب حل "الحسبة"
وفي رد على سؤال حول أسباب حل "جهاز الحسبة" وعدم تشكيله مجدداً، اعتبر قائد "هيئة تحرير الشام" أن تلك الممارسات ستحول المجتمع إلى "مجتمع منافق، إذا رآنا صلى وإذا غبنا لم يصلِّ"، مذكراً بتجربة "تنظيم الدولة" (داعش) "الفاشلة".
وأشار إلى أن ممارسات "جهاز الحسبة" أو "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" جاءت بنتائج سلبية، ولم تأت بنتائج إيجابية.
وكانت "هيئة تحرير الشام" قد شكلت "جهاز الحسبة"، والذي سمي لاحقاً "الفلاح" و"سواعد الخير" عقب سيطرتها على محافظة إدلب في عام 2015، وهي مجموعة من عناصر "الشرطة الإسلامية"، مكونة من الرجال والنساء.
وتتلخص مهمة جهاز الحسبة، بحسب تقرير نشرته BBC عام 2020، بمنع الاختلاط في المطاعم والأماكن العامة، ومنع بيع الرجال للملابس النسائية، ومنع تدخين الأركيلة علناً، إضافة إلى مهام دعوية، تعتمد على التدخل في الحريات الشخصية. قبل أن تعلن حله في عام 2021.
محاولات للتخلي عن التشدد
السياسات المتشددة لـ"هيئة تحرير الشام"، والتي تسيطر على مناطق واسعة من إدلب وريف حلب الغربي، تغيرت خلال السنوات الأخيرة، بشكل ملحوظ.
يقول محمد وهو نازح من ريف حلب الجنوبي، يقيم في مدينة إدلب، "اتركوا أمر الناس لرب الناس، وهذه القاعدة كنا نطالب بها دائماً، لأن التضييق على الأهالي يجعلهم تحت ضغط مضاعف، يكفينا ما نحن فيه من أزمات وظروف قاسية".
وتحدث الناشط الإعلامي عبد الله الأحمد لـ"روزنة": بأن "التشدد الديني، وحتى السياسي، من "هيئة تحرير الشام" بدأت وتيرته تخفّ تدريجياً منذ إعلان الهيئة فك الارتباط بالقاعدة، وأظن أن الموضوع سار بشكل تدريجي حتى تستطيع "الهيئة" السيطرة على عناصرها الذين كانوا معتادين على نمط معين من التعاطي مع بعض الأمور التي كانت بالنسبة لهم من المحرمات، كالدخان في المحلات، الأراكيل في المقاهي، اللباس لبعض النساء، الحسبة، أو لاحقاً (هيئة الفلاح)، والتي تم توقيف عملها بشكل كامل".
ويعتقد في حديثه أن البعض من السكان في إدلب، والمعارضين لـ"تحرير الشام" يدركون أن التغيّر في سياستها، المتبعة حالياً، ليس من أجل مصلحة الأهالي ونزولاً عند رغبتهم، وإنما من أجل إيصال رسالة للمجتمع الدولي على أنها تحررت بشكل كامل من القاعدة، عسكرياً وسياسياً وفكرياً.
ومارست هيئة تحرير الشام، خلال الفترة السابقة، انتهاكات واسعة بحق الناشطين والإعلاميين الذين انتقدوا سياساتها، حيث اعتقلت بعضهم ثم أطلقت سراحهم، بينما ما يزال آخرون قيد الاعتقال التعسفي، وبدون محاكمات.
السيطرة على إدلب
شنت "هيئة تحرير الشام" المتحالفة مع فصائل "جيش الفتح" عمليات عسكرية عام 2015، تمكنت خلالها من السيطرة على مدينة إدلب، وانسحاب قوات النظام السوري من المحافظة، بعد معارك عدة.
قد يهمّك: بعد عقد من الانقطاع.. كنيسة اليعقوبية تحتفل لأول مرة بعد زيارة الجولاني

ومع سيطرة "الهيئة" التي كانت تطلق على نفسها "هيئة فتح الشام" ومن قبلها "جبهة النصرة"، على المحافظة بدأت بفرض سياسات متشددة على الأهالي، عبر "جهاز الحسبة"، والذي ألغي في فترة لاحقة.
وبعد اقتتالات متكررة مع عدة فصائل متواجدة في إدلب، تمكنت "هيئة تحرير الشام" من السيطرة على المحافظة بشكل كامل، وشكلت حكومة تتبع لها، "حكومة الإنقاذ السورية"، والتي حاولت من خلالها إدارة المناطق التي تسيطر عليها.
سياسة "الهيئة" المتشددة، وانتهاكاتها بحق المدنيين، شكلت حالة من الرفض المجتمعي لتلك السياسات، ودفعت بالعديد من النشطاء الإعلاميين والحقوقيين لمواجهتها.
وصنّفت الولايات المتحدة الأمريكية "جبهة النصرة" كمنظمة إرهابية في كانون الأول 2012، بسبب ارتباط التنظيم بالقاعدة، وذلك قبل إعلان زعيمها أبو محمد الجولاني فك الارتباط بالقاعدة في نهاية شهر تموز 2017.
وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد أعلنت في 10 أيار 2017 لأول مرة عن جائزة بقيمة 10 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تفضي إلى إلقاء القبض على زعيم "تحرير الشام" أبو محمد الجولاني.
وفي الـ 22 من شهر تشرين الأول 2019 أعلن برنامج "مكافآت من أجل العدالة" مجدداً عن المكافأة لمن يساعد في جمع المعلومات عن "الجولاني"، كما نشرت ملفاً تعريفياً عنه ضمن الموقع الرسمي للبرنامج.
وتسيطر "هيئة تحرير الشام" على مناطق واسعة من إدلب وريف حلب الغربي، وتديرها بشكل منفصل عن المناطق التي تديرها "الحكومة السورية المؤقتة" في شمال وشرق حلب.
الكلمات المفتاحية