في سوريا، يحاول الناس استعادة حياة سرقت منهم، والحياة لا تعني رغيف الخبز وحده، بل مساحات التلاقي والمرح والتنفّس أيضاً، إذ أنه بعد سنوات الحرب، لم تعد الحياة كما كانت في بلاد الشام، فمن نجا من القتل والقصف والكيماوي، لم ينجُ من الغلاء، الذي ترافق مع أزمة "كورونا" التي تهز العالم، ومن كان راتبه يكفيه لتأمين حاجاته والخروج مرة في الأسبوع مع الأصدقاء أو العائلة، بات الآن مهدداً بقوت يومه.
فالحد الأدنى لمتوسط الأجور في سوريا يبلغ 37 ألف ليرة سورية (قرابة 12 دولاراً أميركياً)، وفقاً لبيانات موقع Salaryexplorer.
وتتصدر سوريا قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم، بنسبة بلغت 90 في المئة بحسب ممثلة منظمة الصحة العالمية في سوريا، أكجمال ماجتيموفا. ما يعني أنّ الطبقة الوسطى باتت على شفير الاختفاء، إن لم نقل اختفت تماماً.
وفيما لا يأبه أحد لملايين السوريين الذين يعانون في الداخل، يحاول هؤلاء البحث عن ابتسامات اختلست منهم، يتمسّكون بالحياة كما تبدو في أحلامهم وفي ذكرياتهم، عن سوريا السهر والرقص والغناء والحارات المضاءة حتى الفجر، بالفرح والضحك.
اقرأ أيضاً: عائلات سورية تواجه برد الشتاء بألبسة "البالة" المعطوبة والغالية

جاد ورفاقه اعتادوا السهر في نهاية كل أسبوع في أحد المطاعم أو البارات، ومع بداية أزمة "كورنا" في سوريا أغلقت المطاعم والحانات، علماً أن الكثير منها أغلق أبوابه بسبب الظروف الاقتصادية، فقرر الشبان نقل سهراتهم إلى المنزل. وحين عادت الملاهي والمقاهي وفتحت أبوابها مجدداً، ترافق ذلك مع ارتفاع جنونيّ في الأسعار، فوجد جاد أن مواصلة سهراتهم المنزلية أفضل صحياً وأوفر على الجيبة.
وقال جاد "اتفقت أنا ورفاقي الخمسة أن نجتمع كل فترة في منزل أحد منا، وغالباً في منزل صديقنا الأعزب الذي يسكن لوحده، نتقاسم مصاريف السهرة بيننا".
جاد شاب ثلاثيني أعزب يعمل في أحد المصارف الخاصة، وعلى رغم أن مدخوله الشهري يعتبر جيداً قياساً بمدخول سوريين كثر، إلا أنه لم يعد قادراً على تحمّل مصاريف السهرات خارج المنزل.
يشتري جاد ورفاقه حاجيات السهرة، وفي ختامها يتقاسمون ما دفعوه في ما بينهم، فبدل أن يدفع كل واحد ما لا يقل عن 30 ألف ليرة سورية، يدفعون مجتمعين نحو 40 إلى 50 ألف ليرة.
قصة مشابهة ترويها شذى وهي طالبة جامعية اعتادت وصديقاتها الاجتماع في المقاهي والمطاعم لتمضية الوقت والتسلية، ولكن بعد ارتفاع الأسعار وجدن أن سهرة المنزل أرخص.
"بعد الحجر وارتفاع الأسعار وجدت أن كل شي نطلبه يفرق سعره للنصف بين تحضيره في المنزل وخارجه، فطرحت على صديقاتي استبدال سهرة القهوة بالمنزل لنواظب على الاجتماع معاً".
بحسب شذى إن تكلفة النرجيلة في المقهى لا تقل عن 2000 ليرة سورية، بينما لا تزيد تكلفة تحضيرها في المنزل عن ألف ليرة سورية، والأمر ذاته بالنسبة إلى فنجان الشاي الذي تبلغ كلفته في المقهى نحو 1500 ليرة سورية، تكفي لتحضير ثلاثة أكواب شاي في المنزل، وقس على ذلك بقية المواد التي تستطيع تحضيرها في المنزل.
من سهرات أسبوعية إلى نصف شهرية أو شهرية!
مقاهي سوريا ومطاعمها كانت دوماً تعج بالرواد، ولكن مع تغير مقومات الحياة والغلاء غير المسبوق خفت زحمتها وتراجع زخمها، والسهرات التي كانت أسبوعية باتت نصف شهرية وأحياناً شهرية، بالنسبة إلى من لا يزال يمضي سهراته خارج المنزل.

قالت "اعتدت وصديقاتها المتقاعدات من أيام الوظيفة أن نجتمع أسبوعياً وأحياناً مرتين في الأسبوع، كل فترة نجرب مقهى أو مطعماً جديداً، ولكننا ككل السوريين نعاني من الأزمة حالياً، فخففنا اجتماعاتنا الشهرية، حتى مع إخوتي والعائلة".
بحسب أم رشيد فهي وكثيرات من سنها، يصعب عليهن الاستمرار بالروتين السابق من نزهات و"صبحيات"، لكنهن لا يردن حرمان أنفسهن، فيحاولن الخروج معاً من حين إلى آخر، لعلّهن يمضين ما تبقى من العمر ببعض السعادة.
عبد المالك، رجل أربعيني، له وظيفة ثابتة في القطاع العام، ومثله مثل كثيرين من ذوي الدخل المحدود، لا تسلية له سوى لعب الورق أو الطاولة، وبحكم المتغيرات التي تمر على البلاد، هو الآخر قلّل لقاءاته مع أصدقائه للعب الورق والشدة، لتخفيف نفقة دفع مبلغ لم يحسب له حساب.
السهرة باتت "سوبر" اقتصادية!
وسهرات المنازل التي باتت ملاذ كثيرين وسط الصعوبات الاقتصادية والمعيشية، باتت تقتصر في معظم الأحيان على مشروبات خفيفة و"لقمشات" رخيصة، لا بذخ، ولا مكونات غالية على الموائد المتواضعة التي باتت كل ما يملكه السوريون في وجه المآسي، إذ يحاول معظم الذين التقتهم "روزنة" الاقتصاد والتوفير قدر المستطاع.
مرام وعائلتها المكونة من أربعة أفراد جميعهم موظفون في القطاع العام، ويقطنون في منزل ملك في جرمانا ويصل مدخولهم الشهري إلى 200 ألف سورية،
بالنسبة إليها وإلى عائلتها وبعدما قاطعوا السهر في المقاهي والمطاعم، أصبحت سهراتهم المنزلية مقتصرة على شرب المتة وبعض البزورات، فعلبة المتة 200 غرام، وصل سعرها إلى ألفي ليرة سورية، ووقية البزورات لا تقلّ عن ألف ليرة سورية، وهي كلفة مقدور عليها مقارنةً بالأنواع التي كانوا يشترونها أيام الخير.

الحال نفسه بالنسبة إلى سامي، وهو شاب ثلاثيني متزوج ولديه طفلان صغيران، سامي يعمل في مصرف خاص، وزوجته تعمل في إحدى المؤسسات الحكومية، ويصل مدخولهما الشهري إلى 300 ألف ليرة سورية، ولكنّ إيجار منزلهما الشهري، يصعّب أوضاعهما المعيشية.
فسابقاً كان باستطاعة سامي تأمين الفواكه متى ما رغب، ولكن اليوم باتت خياراته محدودة، فحتى الموز وصل سعر الكيلو الواحد منه إلى 2500 ليرة، فيما لا يقل سعر كيلو التفاح عن ألف ليرة. يضحك سامي وهو يقول إن الموائد السورية توحدت بأنواع الفواكه الموجودة (برتقال، موز، تفاح) "ولكن أكثر من ذلك يعد بذخاً غير مبرر".
باستطلاعنا آراء أسر سورية، وجدنا أن القهوة أيضاً لم تعد سهلة المنال، فسعر أرخص كيلو القهوة وصل إلى 15 ألف ليرة سورية، وأرخص نوع شاي بألف ليرة سورية، وهي المشروبات الراعية لسهرات السوريين عموماً والتي بدأ السوريون التخلي عنها شيئاً فشيئاً.
أما محبو الكحول، فبطبيعة الحال كان عليهم البحث عن أنواع مشروبات أرخص، مع ارتفاع أسعار المشروبات الكحولية بشكل جنوني.
فيما تبدو شوارع السهر في سوريا شبه مطفأة، يجلس السوريون في منازلهم، يشربون القليل من الشاي، أو المتة، أصبح كوب الشاي تحدياً عنيداً للحياة في بلاد أكل الموت أجزاءها، وما زالت تقاوم.
الكلمات المفتاحية