يقضون يومهم بين النفايات.. التسرب الدراسي يُهدد عُشر أطفال الرّقة

أطفال في مدينة الرّقة - rozana
أطفال في مدينة الرّقة - rozana

التقارير | 24 يناير 2021 | الرّقة - عبد الله الخلف

لم يتوقع هارون الرّشيد ولا خلفاؤه يوماً أنّ الرّقة الفراتية وهي عاصمتهم الثانية بعد بغداد أن يؤول الحال بها لأن تكون مرتعاً لغرباءَ قادمين من شتى بقاع الأرض ليحققوا بها حلم إقامة دولتهم المزعومة، ويُخرجوها ليس فقط من التاريخ بل ومن الجغرافيا أيضاً، وتُضرب بسببهم بمئات القنابل والصواريخ، ويتحوّل جُلُّ أطفالها اليوم إلى مُتسكعين ومشرّدين، فلا مدارس تُعلّمهم ولا مستقبل ينتظرهم.


مدينة الرّقة التي نسيها النظام السوري وترك سُكّانها يُعانون الفقر والعوز على الرّغم من أنّ امتلاك مدينتهم للثروات المعدنية، تَعَاقَب على حُكمها بعد سقوط مؤسسات النظام هناك الجيش الحر الذي لم تطل إقامته فيها، ثم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي عاثت فيها خراباً ودماراً، واليوم تحكمها قوّات سوريا الديمقراطية، وبعد كل تلك الحروب لم يعد سُكّانها يجدون قوت يومهم، ما أدى لعزوف نحو عُشر أطفالها عن الذهاب إلى المدارس، كما تشير تقديرات "لجنة التربية والتعليم" في مجلس الرقة المدني.

اقرأ أيضاً: التسرب الدراسي يضرب بعنف.. لا فتيات في مدارس هذه البلاد

قميصٌ من النار

حسين، طفلٌ من تلك المدينة قاربت أعوامه الـ 12 على النهاية وهو ما يزال أُميّاً، يذهب كل يوم إلى المدرسة، لا يدخلها، يكتفي بالوقوف أمام أبوابها، ويبيع لمن هم في مثل سنه "السحلب"، وبعد أن ينفضّ عنه الطلاب لطلب العلم؛ يعود حسين إلى الشارع دافعاً عربة السحلب بحثاً عن مدرسةٍ أخرى لم يحن موعد دخول طلبتها بعد.

يقول حسين لـ "روزنة": "ليتني أستطيع الذهاب إلى المدرسة، أحب أن أرتدي المريول الأزرق وأحمل الحقيبة على كتفي، وأعيش كباقي الأطفال، ولكن لا يمكنني ذلك، يجب أن أعمل، أمي ماتت منذ سنتين بعد أن انفجر بها لغم أرضي، ولديَّ أختين أصغر مني، إحداهما مصابة بضمور في الدماغ، وأنا وأبي نعمل لكي نؤمن ثمن الطعام والعلاج لأختي الصغيرة".

نُشطاء الرّقة المدنيون يعتقدون أنّ تراجع الحال التعليميّة في المدينة يعود لازدياد معدلات الفقر وتدني المستوى المعيشي للكثير من السكان، مُطالبين الإدارة الذاتية ومنظمات المجتمع المدني ببذل المزيد من الجهد للحدِّ من هذه الظاهرة التي ستؤدي لنتائج كارثية مستقبلاً كما يقولون.

الناشط حسن الشعيب، يؤكد أنّ مدينة الرّقة عانت من انقطاع العملية التعليمية فيها لأكثر من أربع سنوات، بعد أن سيطر تنظيم داعش على المدينة وأغلق المدارس.

"خلال تلك الفترة اعتمد بعض الأهالي على تعليم أبنائهم في المنزل بأنفسهم أو عن طريق معلمين اختصاصيين، وقسم آخر هاجر إلى مناطق سيطرة النظام السوري لتدريس أطفالهم، ولكن الغالبية انقطعوا عن التعليم بشكل كامل، كون ذويهم لا يمتلكون القدرة المعرفية أو المادية من أجل تعليمهم"، بحسب الشعيب.



سنوات الظلام تلك أفرزت وكما يقول الشعيب الآلاف من الأطفال الأميين في الرقة: "بعد رحيل تنظيم داعش عملت منظمات المجتمع المدني على عدّة مشاريع من أجل محو أمية هؤلاء الأطفال وإعادتهم إلى مقاعد الدراسة، وتم إنشاء مراكز طفولة آمنة والقيام بحملات لتعليم الأطفال بالمخيمات".

مراكز حماية الطفولة أو حملات التعليم التي يتحدث عنها المسؤولين والناشطون هناك لم تجد طريقها إلى آلاف الأطفال المُنتشرين في أزقة الرّقة المُدمرة، فمن بين أنقاض أحد البيوت المدمرة في حي الحرامية بمدينة الرقة، يجلس أربعة أطفال تتراوح أعمارهم بين 10 و13 سنة، يدخنون السجائر ويتمازحون بالشتائم، وأمامهم أكياساً كبيرة يجمعون فيها علب المشروبات الغازية الفارغة وغيرها من المخلفات التي يعثرون عليها بين الركام.

اقرأ أيضاً: حملة تركية لمعالجة التسرب المدرسي للأطفال السوريين



وفي ردهم على سؤال "لم لستم في المدرسة؟" كانت إجابات إلى حدٍّ ما متشابهة ليتولى أكبرهم الحديث ويدعى حازم: "ومن أين نأكل إذا ذهبنا للمدرسة؟ الدراسة
تحتاج لأموال من أجل اللباس والكتب والدفاتر والأقلام، وأهلنا لا يقدرون عليها، أنا أبي مات بالقصف، وابن عمي كذلك، وهذا الآخر أبوه مفقود، والرابع والده مريض، نحن من نصرف على أهلنا".

منظومة تعليميّة قاصرة

الأطفال المتسربون من المدارس ونتيجة انقطاعهم لعدّة سنوات عن التعليم؛ لم يعد بإمكان الكثير منهم وكما يقول شعيب العودة للمدرسة بخاصةً أن قسماً كبيراً منهم اتجهوا لسوق العمل، ناهيك عن افتقار المدارس للخدمات الأساسية، وضعف ونقص الكوادر التدريسية، جميعها أسباب ساهمت بتسرب الأطفال من المدارس.

أكثر من ذلك، فالوضع الأمني المُتدهور والصعوبات المالية لأهالي المدينة أيضاً أمعنت في تردي حال الكثيرين ومنعتهم من إرسال أبنائهم إلى المدارس، وبلا شك كما يقول الناشط الشعيب: "عدم التحاق هؤلاء الأطفال بالمدارس سيؤدي إلى نشوء الأفكار المتطرفة بكافة أشكالها لدى نسبة لا يستهان بها منهم، وستزداد نسب الجرائم وتعاطي المخدرات، إضافة للجهل وهو أخطر الآثار السلبية التي ستنشأ مستقبلاً عن هذه الظاهرة".

سُلطات الأمر الواقع في رقّة الرّشد مُطالبةٌ بضبط عملية التعليم الرسمي، إذ لا بُدّ من وجود تقييم دائم ومرحلي للعملية التعليميّة من كافة الجوانب، كجودة التعليم والمناهج وقدرة المعلمين على الإعطاء.

 يضيف الشعيب: "يجب عدم تسييس أو أدلجة التعليم، نحن اليوم نلاحظ عدم استقرار التعليم في المنطقة، المناهج قد تتغير في أيِّ لحظة، يجب على السلطات عدم التضييق على المنظمات العاملة في المجال التعليمي، المجتمع المدني دوره مهم في دعم العملية التعليمية ولا بُدّ له من أن يأخذ دوره، إضافةً لهذا يجب على منظمات المجتمع المدني أن تفكر بطرق أكثر إبداعية لإشراك الأطفال في التعليم".

الفقر الذي عدّه البعض السبب الرئيسي لتسرب الأطفال من المدارس، ربما لم يكن المُتّهم الوحيد في الحال الذي وصل إليه التعليم في الرّقة، فالطفل حسام (9 سنوات) لم تقبله المدرسة المجاورة كما يقول والده، كونه مصاب بمرض التوحد، ولهذا السبب رفضت المدرسة قبوله كونه لا يستطيع الاندماج مع باقي الطلاب.

يقول والده: "ابني يحب أن يذهب إلى المدرسة، يبكي عندما تذهب أخته للمدرسة صباحاً وهو يبقى في المنزل، قالوا لي إنّ أطفال التوحد لهم طرق خاصة بالتعليم ولا يمكن وضعهم مع باقي الأطفال بالمدرسة، ولكن للأسف لم أجد حتى الآن جهة تهتم بتعليم ابني ونظرائه من الأطفال الذين يعانون من هذا المرض".

السير إلى المجهول

في مخيم سهلة البنات القابع شمالي مدينة الرقة ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، يأوي المخيم قرابة 200 عائلة سورية نازحة، أكثر من نصف أفراد هذه العائلات هم من الأطفال، جميعهم محرومون بشكلٍ كامل من التعليم، فلا وجود لمدرسة قريبة منهم، ولا أحد منهم فكّر بالتعليم، الجميع يعملون في جمع الخردة من بين أكوام القمامة في مكبِّ النفايات المجاور للمُخيّم.

اقرأ أيضاً: لبنان: نظام التعليم المدمج وتهديد مستقبل الطلاب



من بين مكبّات النفايات وأكوام الخردة التي باتت تُحيط بالمخيم كما يحيط السوار بالمعصم تخرج صالحة الحمد وأطفالها الخمس عائدةً بهم إلى المُخيّم، ترفض صالحة إرسال أبنائهم للمدارس غير الموجودة أصلاً.

تقول صالحة: "لم نعد نهتم بالتعليم منذ أن هُجّرنا من مناطقنا، أصبح همنا الوحيد كيف نؤمن لقمة العيش لنبقى على قيد الحياة، أطفالنا حملوا المسؤولية معنا مبكراً، علينا أن نعمل جميعاً ونجمع المخلفات من المكب لنبيعها ونعيش، ربما لو اهتمت بنا منظمة ما وفتحت لنا مدرسة في المخيم لتغير الوضع، نحن مقيمون هنا منذ ثلاث سنوات ولم نر اهتماماً من أي جهة كانت".

إحصائيات لجنة التربية والتعليم في مجلس الرقة المدني، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ حال التعليم في الرّقة يسير من سيءٍ إلى أسوأ، فعدد المدارس في محافظة الرقة يبلغ (398) يدرس فيها قرابة 100 ألف طالب في هذه السنة الدراسية، بينما كان عددهم حوالي 117 ألف تلميذ العام الماضي!.

هذا التناقص في عدد الطلاب الملتحقين بالمدارس ردّه نائب رئيس لجنة التربية والتعليم في مجلس الرقة المدني هلال الجوديّة إلى الخوف من الإصابة بفيروس كورونا: "هناك أسباب أخرى مثل قلّة الوعي لدى بعض الأهالي بأهمية تعليم أبنائهم، والأوضاع المعيشية الصعبة للناس أيضاً هي أحد أبرز العوامل، نحن نعمل على توعية الأهالي بأهمية ذهاب أبنائهم للمدارس".

ويضيف "نعقد اجتماعات معهم عن طريق مجالس الأحياء والقرى ونحثّهم على ألا يحرموا أبنائهم من التعليم، كذلك نعمل على إعادة تأهيل المدارس المدمرة في الرقة وريفها، وتوزيع الكتب المدرسية مجاناً على الطلاب، ويجب أيضاً تحسين الوضع المعيشي للسكان كي لا يدفعوا أولادهم للعمل لمساعدتهم في تأمين لقمة العيش".

أمن.. وأمان

الوضع الأمني في محافظة الرقة والذي أقلُّ ما يوصف به بأنّه مُتدهور، ومع استمرار تكرار حوادث الخطف والقتل خلال العامين الماضيين، أدى إلى عزوف الأهالي عن إرسال أبنائهم إلى المدارس، إذ شهدت مدينة الرقة هذا العام ارتفاعاً ملحوظاً بنسب جرائم خطف الأطفال، وقتلهم في بعض الأحيان في ظروف غامضة.



الطفلة هديل البالغة 11 عاماً لم تذهب هذا العام إلى المدرسة، الأمر الذي ردّه والدها إلى الوضع الأمن المُتردي: "بعد أن تكررت على مسامعي قصص خطف الأطفال في مدينة الرقة، أشعر بأني مصاب بالرهاب على ابنتي الوحيدة، لا يمكنني أن أدعها تذهب إلى المدرسة، لا أدري ما الذي يمكن أن تتعرض له في الطريق، لن أخاطر بحياتها من أجل التعليم".

تقديرات منظمة اليونيسيف للعام 2019 كشفت أرقاماً صادمة عن حال التعليم في سوريا، فنصف الأطفال السوريين بين عمر الخامسة وسبعة عشر عاماً محرومون من حقهم في التعليم، فيما تعرضت نحو 7400 مدرسة للدمار، وفي أحسن الأحوال خرجت عن الخدمة وأصبحت مراكز إيواء للنازحين خلال السنوات العشر الماضية.


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق