في ظل قيود مدينة حلب الاجتماعية تقبع روح إنانا مسجونة داخل جدران منزلها، معزولة عن عائلتها التي ترفض الاعتراف بهويتها الجنسية الجديدة محاصرةً بفيروس كورونا.
"أنا مرتاحة اليوم بهويتي الجديدة، ما كنت بأي يوم بهاد الرضا عن نفسي"، هكذا تبدأ أنانا حديثها لـ"روزنة".
لم يختلف الواقع المحيط بإنانا، التي تبلغ اليوم من العمر 40 سنة، على رغم السكينة التي تعيشها اليوم روحياً، فهذا السلام لم ينتقل إلى محيطها المجتمعي. تقول، "لما بدي اطلع من البيت بلبس ثياب فضفاضة، وبحط على رأسي طاقية حتى اقدر اخبي وجهي، أنا بخاف أتعرض للتحرش بالطريق والتلطيش، ملامحي تتأرجح بين الأنوثة والرجولة حتى الآن".
ويواجه الأشخاص من المثليين والمثليات ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسياً في سوريا تحديات قانونية واجتماعية لا يواجهها غيرهم من المغايرين جنسيا. ورفض كبير من العائلات التي ينتمون إليها.
أنت صبي أو بنت؟
عاشت إنانا سنين طويلة تحاول الخروج من شرنقة الاختباء. وتقول: "طوال حياتي لم يكن لدي أصدقاء، كنت انطوائية، وظنّني الناس طفلاً غريب الأطوار، وظلوا يسألونني دائماً: أنت صبي أو بنت؟". "إنه سؤال رافقني في البيت والشارع والمدرسة، وفي كل مكان"، تتابع إنانا.
العائلة كانت تراهن على الوقت، لعلّ سلوك الطفل الذي كانته إنانا، يتغيّر مع مرور الزمن، وفعلت كل ما بوسعها لتقويم "الابن الضال" بحسب معتقداتها، إنما من دون جدوى.
لا يزال صوت الجرس في يومها الأول في المدرسة يتردد في ذهن إنانا: "كنت في الرابعة، لم نخرج إلى الاستراحة يومها، وكان صياح الأولاد فظيعاً. أذكر أنني كنت أفضّل التقرّب من البنات وأبتعد من الصبيان، بعدها حين صرت في المرحلة الابتدائية، صرتُ أتعرّض للتنمّر كلما اقتربت مني بنت".
"نحن عائلة محافظة، ومهما تقربت من أخواتي البنات، هناك حدود بيننا. كنت أملك غرفة خاصة ولم أنسجم مع إخوتي الصبيان، لم أكن أخرج معهم أو أمارس أي نشاط برفقتهم. في بداية المراهقة حاول إخوتي التقرب مني لكنني لم استجب لهم".
ولكن الفترة الأصعب عليها كانت فترة البلوغ، صراع داخلي جديد بدأت معالمه تتكشف من جديد، وأدت حالة الاكتئاب التي أصابتها إلى تراجع مستواها الدراسي.
وهنا وجدت العائلة نفسها أمام خيار المواجهة مع اضطراب إنانا بجدية أكبر. لم يكن سهلاً على العائلة الحلبية التقليدية أن تتقبل كيف يريد ابنها البكر أن يتحول إلى فتاة، في مجتمع يعتبر إنجاب الولد الذكر فخراً.
بدك تصير شاذ؟
الحل الأمثل كان عيادات الأطباء النفسيين. تقول إنانا: "سألني أحد الأطباء الذين زرتهم مع أهلي: هل تريد أن تصبح شاذاً وتصاب بالإيدز؟".
وعلى رغم هذا الارتباك في هويتها الجنسية، إلا أنها لم تنجُ من التحرش الجنسي، تقول إنانا: "كنت مرة في مخبر تحليل روتيني للدم، حين قرأ الممرض التحاليل الهرمونية سحبني إلى داخل غرفة بقصد التحرش، وبدأ يسألني إن كنت أملك أعضاء أنثوية".
"ابني روح صاحب نسوان... إنت رجّال"

حين بلغت إنانا السابعة عشرة، فاجأها والدها بتصرف غريب جداً على عائلة محافظة، وإن كانت تفسح للرجال مساحات أوسع من تلك التي تُمنح للنساء. دخل إلى غرفة إنانا ورمى لها عدداً من الأوراق النقدية وقال: "ابني روح اسهر واسكر، صاحب نسوان، طلاع من هالحالة، إنت رجال ما يعيبك شي".
تقول إنانا: "أنا بهذا الجسد لم أكن أتقبل فكرة إقامة علاقة، حتى القبلة لم أجربها خلال حياتي، تعرفت إلى فتيات ورجال، لكنني أميل إلى فكرة أنني لا جنسية".
فشل الطب النفسي وصلني لشيخ الجامع
"في الواحدة والعشرين، الخيار الوحيد الذي كان أمامي هو الانتحار. وبالفعل تناولت عقاقير أدوية، ولكن والدتي استطاعت إسعافي، واتخذت قرار البقاء كجسد بلا روح وأن أتقبل الحياة كذكر".
عندما فشلت نصائح الطبيب النفسي، اصطحبت الوالدة إنانا إلى شيخ الجامع.
تخبرنا: "انسجمت بدايةً مع فكرة الروحانية في الجامع، صرت أحضر طقوساً وجلسات دينية صوفية، لكن بعد فترة اكتشفت النفاق الذي يمارسه رجال الدين، وبدأ الإحساس بالنفاق الديني ينفرني من هذه الجلسات"، علماً أنها كانت تلتزم بحضور هذه الجلسات والصلاة في قسم الرجال.
"أحياناً كانت روحي تختنق في جسدي، ولما أصرخ من شدة الغضب، كانت أمي تقول (لا تصوّت متل النسوان، رح تفضحنا)".
آخر الداء الكَيّ كما يقال، ومع فشل التجارب السابقة، جاء الفرج لعائلتي مع وصول تبليغ الالتحاق بالخدمة العسكرية. إذ تواطأ الخال والأب لتأخير موعد الالتحاق حتى آخر فرصة، مقابل دفع رشوة حتى لا تعرض إنانا على لجنة طبية قد تستثنيها من الخدمة.
قال لي الضابط: إنت شو جابك لهون
في ظهيرة أحد الأيام وبشكل مفاجئ، حزم الأب والخال حقيبة إنانا وطلبا منها ارتداء ثيابها واصطحباها إلى مركز الالتحاق بالخدمة العسكرية.
كان الضباط ينظرون إليها ويسألون: "إنت شو جابك لهون، أكتر شي قدروا عملوا أنهم أعفوني من بعض التكليفات الرياضية الصباحية الصعبة كالجري أو بعض المهمات القتالية".
ومع كل غروب، كان يتملك إنانا خوف جديد يدفعها للهروب من مهجع النوم إلى أماكن أخرى، تشعرها بالأمان، كما تؤكد أنها تعرضت للتحرش من مجندين.
جنازة الأب كابوس من نوع آخر
توفي والد إنانا بسرطان الرئة، وكانت الجنازة كابوساً لا يوصف، فإنانا كانت الابن البكر، فأجبروها على المشاركة في غسل الميت وتكفينه ودفنه. فالابن بحسب الشريعة الإسلامية هو المسؤول عن إنزال والده إلى القبر.
اقرأ أيضاً: حالمات بالطلاق... "البيوت أسرار"

وتقول القاعدة الشرعية أن الرجال هم فقط من يتولون دفن الميت ذكراً كان أم أنثى. ويُدفن الميت من قبل الوصي الذي سماه الميت، ثم يأتي الأقارب إن كانوا يُحسِنون الدفن، فإن لم يكونوا كذلك أو لا يريدون النزول للقبر، فيدفنه أي واحد من الناس.
ثم أتت الحرب…
كيف بإمكانها المشاركة في طقوس الرجال وهي ترفض عوالمهم؟ "زيارة الحلاق بالنسبة إلي كانت تعني الذهاب إلى المسلخ". لا المعالجة من طريق الدين أو عبر أطباء نفسيين تقليديين حققت سكينة الروح لإنانا، الملاذ الأخير كان الموسيقى الكلاسيكية، التي كانت تفيد في تهدئة الألم قليلاً، ليعود بعد حين.
ثم أتت الحرب، التي لم تغير معالم البلاد وحسب، إنما تسللت أيضاً إلى أصغر تفاصيل حياة السوريين. باعت عائلة إنانا جزءاً كبيراً من عقاراتها، وقررت الهجرة.
أما هي فقررت البقاء في حلب التي عاشت أكبر صراع عرفه الشرق منذ سنوات، تقول عن هذه الفترة، "بقيت لوحدي لأحرس المنزل ككلبة".
طردتها الطبيبة: ما في حرمانية شرعية
بات الحصار يطبق أكثر فأكثر عليها مع وصول فايروس "كوفيد-19" إلى حلب، ويزيد من صعوباتها المادية، مع نقص فرص الحصول على عمل "بالوقت الطبيعي ما كان في شغل وزادت المشكلة مع كورونا".
وتتستر حكومة النظام السوري على الأعداد الحقيقية للاصابات بفيروس كورونا، حيث لا يوجد مراكز فحص مجانية، كما أن ارتفاع مؤشر عدد الوفيات العام رغم صدور تقارير طبية تفسر سبب الوفاة لأمراض أخرى لا علاقة لها بفيروس كورونا.
وبينما يحاول الجميع حماية أنفسهم من العدوى، شعرت إنانا بالتوعك، حملت ملفها الطبي وتوجهت إلى إحدى الطبيبات. ولكن في موعد المراجعة حصل أم رغريب، الطبيبة تركت لها خبراً عند السكرتيرة، "ما بقدر استقبلك لأن في حرمانية شرعية".
ليس فقط أطباء العيادات الخاصة من يستخدم هذا السلوك، وإنما أيضاً يواجهونه في المستشفيات حين يكتشف الأطباء أنها عابرة جنسياً، تتعرّض للتمييز مباشرة.
تقول إنانا: "زاد الطين بلة نقص الهرمونات الطبية التي كانت تتناولها الفتيات، بسبب الظروف الجديدة، إذ لجأن إلى حبوب منع الحمل كحل بديل والأدوية الهرمونية، على رغم آثارها الضارة من ارتفاع في الوزن ومشكلات في الكبد قد تتطور إلى جلطات في الدم، إضافة إلى أدوية أخرى يمكن أن تتسبب بأذية صحية لهن".
(إنانا تحكي قصتها خلال الجائحة)
"ما طلعت مجنونة"
في كل مرة كانت تنظر إنانا لنفسها في المرآة كانت تكرهه " كنت بفكر حالي دوماً إني قرد".
ولكن ومع البحث أكثر في عوالم العابرين جنسياً، استطاعت إنانا أن تكتشف هويتها الحقيقية، وعلمت أنها لا تعاني من التوحد كما كانت تعتقد. واستطاعت أن تحصل من طبيب نفسي على ورقة تثبت أهليتها العقلية.
خرجت فرحة من عيادته، ومع شهادة طبيب غدد صم، أصبح بإمكانها استصدار ورقة من القاضي الشرعي في المدينة بأحقيتها في إجراء التغيير الجنسي.
والآن تنتظر إنانا تحسّن الظروف وانتهاء جائحة "كورونا" حتى تستطيع السفر، لإجراء العمليات الجراحية التي تحتاجها، حتى ترتاح روحها في جسد يشبهها.
ثم تضيف: "كنت أنظر إلى نفسي على أنني كائن فضائي... مجموعة من الفضائيين جلبوني الى هذا المكان وتركوني هنا وهربوا".
لا تملك اليوم أي صلة بإخوتها الذكور، أما أخواتها فيتفهمن حالها ولكنهن مقيدات أمام المجتمع وعليهن إنكار معرفتهن بهويتها الجنسية الجديدة.
أما أمها فتصر حتى اليوم على مناداتها باسمها الذكري السابق، قالت لها: "إذا بدك تعملي العملية غيِّر اسم العيلة ولا تفضحنا"، الجميع كانوا يبحثون عن درء الفضيحة ولم يهتموا لآلام إنانا.

يسمح للمتحولين جنسياً بتغيير الجنس القانوني. حيث يُسمح بإجراء جراحة إعادة تحديد الجنس للأشخاص الذين يكون جنسهم غير واضح أو الذين لا تتطابق سماتهم الفيزيائية مع خصائصهم الفسيولوجية والبيولوجية والجينية.
بعد الجائحة لم يعد مدخولي الاقتصادي يكفيني
بقيت لوحدي لأحرس المنزل، وعندما علمت عائلتي برغبتي بالعبور الجنسي، رفضت الموضوع ولم تقدم لي أي مساعدة، بل على العكس. أخوالي وأعمامي لو علموا أنني سأعيش كفتاة سيؤذونني لأنني بنظرهم أشوّه اسم العائلة".
تعتاش إنانا من أجرة أحد المحلات، الذي بقي لها، ولكن بعد التضخم الاقتصادي الذي تعيشه سوريا لم تعد هناك من قيمة لحصيلة الإيجار. حاولت في السابق العمل، لكن الظروف لم تساعدها، كما عملت في معمل خياطة قبل الحرب لكنها لم تنسجم مع بيئة العمل، وكذلك في احدى محلات الألبسة النسائية.
تقول: "معظم العابرين جنسياً يعملون في مجال الألبسة والتصميم والكوافير والحلاقة. كنت أحاول دوماً المشاركة في دورات تدريبية في مجال الكوافير لكنني كنت أرتبك بعد فترة بسبب الاكتئاب".
يواجه معظم طالبوا العمل مشاكل في ايجاد الوظائف، وفي لكن في حالة إنانا فإن هذه التحديات تزداد بشكل أكبر، فهي تحمل هوية بجنس ذكر بينما تحمل جسد أنثى.
تتابع: "كان بقي لي محل صغير، لأعيش من إيجاره، إذ لم أكن أملك حياة اجتماعية تحتاج إلى مصاريف طائلة. لكن بعد الجائحة لم يعد هذا المدخول يكفيني".
"أرواح حرّة"
ومع انتشار جائحة كورونا ارتفعت نسبة العنف الممارس داخل المنازل بشكل عام، وبالأخص على عابري الجنس. فلم تعد هناك من مساحات للهرب خارج الجدران يلجأوا إليها.
ثم تستدرك قائلة: "مع بدء الأزمة الاقتصادية، استيقظت على واقع جديد. فالحل الوحيد لإجراء تصحيح جنسي هو السفر خارج سوريا. بدأت أجهز نفسي للسفر مع بداية هذا العام، لتأتي جائحة "كورونا" وتهدم آمالي.
إنانا اليوم محاصرة ضمن الحدود المغلقة تنتظر اطلاق سراح روحها الجديدة. تنهي إنانا حديثها لـ"روزنة" قائلة: "أحاول حتى اليوم تقبّل حياتي، بعدما كنت أعيش كالزومبي".
الكلمات المفتاحية