"بألف ليرة أي كنزة أي كولون... نقي واختار ولا تحتار..."، ينادي العم أبو عبدو على بضاعته في قلب سوق أوغاريت للألبسة المستعملة (البالة) في اللاذقية، يقف وأمامه كرتونة كبيرة من الألبسة المستعملة، تغوص بداخلها أصابع الزبائن الذين يحاولون البحث عن قطعة تصلح لشيء ما!
بعد نحو عشر سنوات من الحرب، يأتي شتاء سوريا هذا العام محفوفاً بالمزيد من القهر، لا البرد فقط. بعد نحو عشر سنوات، تراجعت قيمة الليرة السورية بشكل غير مسبوق وبات شراء سروال أو سترة أو معطف يقي عجوزاً أو طفلاً البرد، من الكماليات، وبات اقتناء حذاء غير مرتوق رفاهية يصعب التقاطها. البالات وباعة الثياب والأحذية المتجوّلون، باتوا ملجأ الفقراء الذين أصبحوا يشكلون الأغلبية الساحقة من السوريين.
يقول أبو عبدو لـ"روزنة": "هذه البضاعة أبيعها بسعر زهيد جداً، لأنها معطوبة، إما سروال بحاجة إلى أزرار أو سحاب، أو سترة مشقوقة من الداخل، أو قميص باهت اللون، يمكن للشاري رتقه عند الخياط. سابقاً كان بيع ثياب كهذه صعباً، لكن مع ارتفاع الأسعار زاد الطلب عليها".

تتقدّم سيّدة من الكرتونة الكبيرة، تسحب "كولون" من القطن، تتفحّصه، ثم تقرر شراءه مقابل 1000 ليرة سورية، تقول لـ"روزنة": "نوعيته رديئة جداً ورائحته كريهة ومشقوق من الجهة اليمنى، لكن ليس لدي خيار سوى أن أشتريه وأغسله وأعيد حياكته في البيت بالإبرة والخيط". تهز برأسها وتضيف: "ارتفاع الأسعار خلانا نشتري الزبالة!".
في جولة "روزنة" في أسواق الثياب المستعملة، يجمع المتسوّقون على أن ألبسة "البالة" مهما كانت سيئة، إلا أنها تبقى أفضل من الثياب الجديدة التي تفوق أسعارها القدرة الشرائية لدى الأكثرية.
تقول إلهام التي جالت في أسواق هنانو والعنابة والتجار قبل أن تستقر على سوق أوغاريت إنها تبحث منذ الصباح عن ملابس داخلية لأطفالها، لكنّ هذه المهمّة ليست بالسهولة التي قد تبدو بها، فسعر السروال القصير الواحد قد يصل إلى 2500 ليرة سورية لطفلة في الرابعة، وفق إلهام.

أسعار مرتفعة ورواتب منخفضة
متوسط الرواتب في سوريا لا يتجاوز 94.26 دولار (56 ألف ليرة سورية بسعر صرف 600 ليرة للدولار)، وفق موقع “numbeo” المتخصص بالإحصاءات. ويقع 83 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، بحسب تقييم احتياجات الأمم المتحدة لعام 2019.
ومع رفع الدعم عن سلع أساسية والارتفاع المدوي في الأسعار، يجد المواطن نفسه عاجزاً عن تلبية أبسط احتياجاته، شراء ثياب داخلية مثلاً.
أسواق كراتين وبسطات
على بعد أمتار قليلة من كرتونة العم أبو عبدو، يعرض أبو محمد بضاعته، مجموعة متنوعة من سترات الأطفال الشتوية يبدأ سعرها من 5 إلى 10 آلاف ليرة سورية.
أما القبعة الصوف فسعرها 1500 ليرة، والسروال الجينز بـ10 آلاف، والوشاح الصوف (اللفحة) بـ2500 ليرة. تقول إحدى المتجوّلات: "اشتريت سترة وقبّعة ولفحة وكنزة وسروالاً لابنتي الصغرى بـ24 ألف ليرة، كما اشتريت حذاء مطرياً لها بـ10 آلاف، أي أن مجمل ما دفعته 34 ألف ليرة لابنتي الصغرى فقط، ثمن ألبسة مستعملة معطوبة من البالة لتواجه بها برد الشتاء". ثم تضيف: "لكنّ هذا المبلغ قد لا يكفي لأشتري قطعة جديدة واحدة،لذلك أفضّل التسوّق من بسطات الثياب المستعملة".

تعاني ديما من حساسية مفرطة، تقول لـ"روزنة": "لا أحب أن أشارك الملابس مع أحد، أشعر أنها تنقل طاقة صاحبها، ولا تزول رائحته عنها مهما غسلتها، لكن مع ارتفاع أسعار الملابس الجديدة، لم يبق أمامي خيار سوى الألبسة المستعملة. لذلك قررت التجوّل في سوق البالة في دمشق".
يبلغ سعر السترة (الجاكيت) الجوخ في سوق خالد بن الوليد للألبسة المستعملة في دمشق 30 ألف ليرة سورية، لكنها كما تصفها ديما "أخت الجديدة"، تقول: "اشتريتها مستعملة لكنها تبدو جديدة، هذا ما يهوّن عليّ ويجعلني أنسى أن شخصاً ما ارتداها سابقاً، إذ لا يمكنني شراء سترة جديدة".
تقشف وتقنين
جولة صغيرة في الأسواق تكفي لكتابة مطوّلات عن معاناة السوريين وخوفهم من الشتاء، مع انقطاع الكهرباء المتكرر وصعوبة تأمين التدفئة، وارتفاع أسعار الثياب والأحذية بشكل لافت. فالحذاء المستعمل بـ25 ألف ليرة، كما تروي ديما، لذلك قررت وأختها الاكتفاء بما لديهما من السنوات الماضية، مع تصليح المعطوب منها، لعلّ الشتاء يمرّ على خير.
فسوريا الآن تواجه حصاراً اقتصادياً ضخماً على وقع فرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على النظام السوري ورجال الأعمال الداعمين له، أقساها ما يعرف بقانون "قيصر" منذ حزيران الماضي، وقد تجاوزت قيمة الليرة السورية عتبة الـ2500 مقابل الدولار الأميركي، و"قانون قيصر"، انعكس قبل أي شيء على حياة الناس وقدرتهم الشرائية، إذ كان عليهم دفع ثمن الحرب وغنائمها وخساراتها.
اقرأ أيضاًَ: تجارة الأعضاء الملجأ الأخير لتغلّب السوريين على الفقر!

أسعار البالة في طرطوس خيالية
نوار (40 سنة) موظف في القطاع العام في طرطوس، يجول في شوارع المدينة بحثاً عن محل بالة أسعاره مقبولة، يريد شراء "بيجامة" شتوية بعدما اهترأت بدلة النوم التي يملكها، وتحولت إلى "خرقة" كما يصفها، يقول لـ"روزنة": "أسعار البسة البالة في طرطوس خيالية لا يمكن تصديقها بخاصة عندما أقارنها براتبي الشهري، 45 ألف ليرة".
ما زال لدى نوار أمل في العثور على محل بالة في طرطوس يبيعه بيجامة شتوية بـ10 آلاف ليرة، هي كل ما يملكه، يقول: "أعطتني زوجتي هذا المبلغ، كانت قد وضعته جانباً، قالت قبل أن أخرج من المنزل (لا تعد إلا والبيجامة معك)". يضحك نوار ويضيف: "يبدو أنني لن أنام في المنزل اليوم، أرخص بيجامة مستعملة بـ22 ألف ليرة".

الدولار و"كورونا"
يقول سعيد صاحب محل للألبسة المستعملة: "البضاعة أنواع، هناك ما نسميه الكريم وهو أفضل وأغلى نوعية، ثم نمرة واحد، ونمرة اثنين، ونمرة ثلاثة، يبلغ سعر قطعة الكريم من 20 إلى 50 ألف ليرة، أما نمرة واحد فمن 10 إلى 20 ألفاً، والنمرة ثلاثة من 5 إلى 10 آلاف، هذه ألبسة مستعملة لكنها جيدة أما النوعيات الرديئة جداً التي تباع بـ1000 و2000 ليرة على البسطات، فنحن لا نعرضها".
يؤكد سعيد أن سبب ارتفاع أسعار الألبسة أربعة أضعاف عن العام السابق يعود إلى ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء، يقول: "كنا نبيع السترة الشتوية العام الماضي بـ7000 ليرة عندما كان الدولار يعادل 1200 ليرة، الآن أصبح سعر الصرف يناطح 2700 ليرة للدولار الواحد ونحن تجار نشتري بالعملة الصعبة ونواجه تكاليف التحويل والاستيراد".

يرى سعيد أن إجراءات الحظر وإغلاق المحلات التي فرضتها حكومة النظام السوري لمنع انتشار فيروس كورونا المستجد في آذار الماضي كبدتهم خسارة فادحة لم يستطع التجار تعويضها إلى الآن فحركة الزبائن في السوق ضعيفة والأسعار تكوي جيوبهم شبه الفارغة، مع ذلك يقول: "لا يمكننا تخفيض الأسعار طالما الدولار طالع".
وتشهد المناطق الواقعة تحت سيطرة حكومة النظام السوري أزمة معيشية فاقمتها جائحة كورونا، ما أدى إلى ارتفاع أسعار مختلف السلع والحاجات الضرورية، فأصبحت الألبسة المستعملة أمنية صعبة المنال يرجو معظم السوريين تحقيقها عام 2021.
الكلمات المفتاحية