رحلة سوزان استغرقت 4 سنوات للوصول من حلب إلى باريس، وقطعت نحو 4 آلاف كيلومتر من النزوح واللجوء حتى عبرت إلى بوابة الحياة.
رصاصة قناص بددت عتم إحدى الليالي الربيعية في منزل سوزان، ولمسة الموت السريعة دفعتها إلى حسم أمورها في مغادرة مدينة حلب. تلك السيدة الأربعينية التي لم تفكر يوماً في مغادرة المدينة مع أبنائها الأربعة، قضت أيامها خلال الأربع سنوات الماضية تتنقل بين نزوح ولجوء.
ولم توفر السفر براً أو بحراً أو جواً حتى وصلت إلى أوروبا لتصبح اليوم إحدى الناجيات من المقتلة السورية.
خيار آخر كان لزوج سوزان، حيث رفض مغادرة البلاد، وفضل أن يدير أعماله من داخل مدينة اللاذقية التي قصدها نازحاً من حلب. وغادرت حلب نهاية شهر آذار عام 2013، مع أولادها لتصل إلى أوروبا في عام 2017، بعد أن غامرت بحياة ابنائها و حياتها في البحر حتى تصل شاطئ الحياة.
تقول سوزان" لطالما كنت أرفض الخروج من البلد، و لكن في نهاية عام 2012 بدأت الأمور تضيق علي، خاصة عندما علمت أن أولادي الكبار بدأوا بالخروج في المظاهرات المناهضة للنظام السوري".
كنت مؤمنة بالثورة المدنية " لكن مع بداية انتشار الجيش الحر في حلب، بدأت الفوضى تعم، وخشيت من تطور مشاركة أولادي في المظاهرات إلى الانضمام الانخراط في العمل المسلح، وهو ما كان مرفوضاً بشكل قاطع بالنسبة لي".
لم يعد صوت المظاهرات المدنية فقط من يصدح في شوارع المدينة، و بدأ أزيز الرصاص يعلو مع نهاية عام 2012.
عملت سوزان على منع أولادها من الذهاب إلى الجامعات والمدارس، وزاد الأمر استدعاء الابن الأكبر إلى خدمة العلم وكان قراري " لا أريد لابني أن يكون قاتلاً أو مقتولاً". زوج سوزان حملها مسؤولية أي خطر قد يصيب الأولاد في حال اعتقل أحد منهم أو أصيب بمكروه بسبب مواقفي السياسية.
وهنا بدأت رحلة اللجوء
تجاوز عدد اللاجئين السوريين في العالم خمسة ملايين، بحسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.وتحتل تركيا الصدارة في استقبال أكبر عدد من اللاجئين السوريين، بنحو حوالي ثلاثة ملايين، وصلت التقديرات إلى وجود أكثر من مليون لاجئ في لبنان، وفي الأردن 657 ألفاً، حسب تقديرات أممية في عام 2016.
بيروت العنصرية
اعتقدت سوزان أن بقائها في لبنان لن يطول "غادرنا إلى لبنان وأقمت عند أصدقاء العائلة لمدة ستة أشهر، إلا أن الوضع الأمني كان صعباً على السوريين و تكلفة الاقامة فيه مرتفعة و مرهقة جداً، حتى أنني كنت لا أغادر المنزل الذي سكنت فيه إلا لقضاء الاحتياجات الضرورية متحاشيةً أي سجال أو نقاش".
سياسية الترهيب التي كانت تعرف عن حزب الله اللبناني في اختطاف الناشطين المناهضين للنظام السوري جعلت من سوزان قلقة على الدوام، و متخوفة من أي صدام بين أولادها و اللبنانيين بسبب آرائهم السياسية أو العنصرية التي يمارسها البعض.
تقول سوزان: " تنقلت في تكسي مشترك ببيروت، وإذ بإحدى السيدات تقول بصوتٍ عالٍ أن السوريين لم يتركوا عملاً للشباب اللبناني". " لم أكن أرغب في الدخول في نقاش معها، و لم أعرف حقيقة إن كانت شعرت بأني سورية".
أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان هي الأسوأ في بلدان اللجوء، ووصلت إحدى الحملات العنصرية بحقهم إلى المطالبة بطردهم من القرى التي نزلوا فيها. و باتت قضية اللاجئين السوريين جزءً من حملات السياسيين اللبنانيين في تمرير برامجهم الانتخابية.
"أم الدنيا" لم تكن حنونة
قبل سوريا، شهدت مصر انطلاق ثورة ال 25 من كانون الأول عام 2011 ، والتي أدت إلى تنحي الرئيس المصري حسني مبارك وانتخاب الرئيس محمد مرسي، المحسوب على تيار الإخوان المسلمين في حزيران منذ عام 2012. ومع قيام دول الخليج بتشديد إجراءات الحصول على (تأشيرة دخول) باتت مصر ملجأً للسوريين.
عقب ذلك، توجهت سوزان إلى القاهرة، لتستقر في إحدى المدن الحديثة إلى جانب شقيقتها التي تقيم في مصر.أُرهقت سوزان نفسياً ومالياً، تكلفة رحلات الطيران وشحن الأغراض لأربع أشخاص لم تكن باليسيرة، وبدأت ببيع قطع من الحلي الذهبية الخاصة بها.
وصول عدد كبير من السوريين إلى القاهرة أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات و إيجارات المنازل،إلى ثلاثة أضعاف في بعض المناطق، وخاصة في الأماكن التي تعتبر أكثر أمناً، كالمدن المغلقة والمدعوة ب"الكامبوندات".
في البداية، دفعت سوزان نحو ثلاثة آلاف جنيه شهرياً لاستئجار شقة مناسبة في إحدى المناطق السكنية الجديدة، في محيط مدينة القاهرة، ومع زيادة المصاريف،بقي أطفالها دون تعليم لعدم قدرتها على تحمل النفقات.
تغير الحكم في مصر عام 2013 مع انقلاب المجلس العسكري ضد الرئيس محمد مرسي، ما أدى إلى تغير المزاج العام، وبات نسبة لا بأس بها من المصريين من اتباع الرئيس عبد الفتاح السيسي و الرئيس السابق حسني مبارك ينظرون إلى السوريين على أنهم جزء من الإخوان المسلمين، وبدأت بعض الأقلام الإعلامية، والخُطب السياسية تتكلم ضد وجود السوريين في مصر، يضاف إليها مشاكل الاقامات و العمل، رغم بعض النجاحات الملحوظة للسوريين في منطقة 6 اكتوبر، أو بعض المعامل الصناعية والتي رضخ اصحابها فيها إلى تشغيل العمالة المصرية بالنسبة الاكبر لتعداد العاملين.
و مع تبدل الأحوال السياسية في مصر، بدأ التضييق على السوريين عبر انتشار حواجز الشرطة في شوارع القاهرة، وبات مصير عائلة سورية مرهوناً بالترحيل لو أحدثت أي مشكلة.
لم يكن من السهل على امرأة العيش بمفردها دون زوج، ولم يُشكّل وجود أبنائها معها درعًا كافياً لحمايتها من أعين الناس و ألسنتهم. تقول سوزان" كنت أسمع من السيدات المصريات (تلطيشات) بأن النساء السوريات أخدن الرجال المصريين، حتى أن إحدى الجارات كانت تلقي التحية مرة و تتغاضى عنها عشرات المرات".
تستذكر سوزان بألم إحدى القصص الأليمة التي حصلت معها في مصر"تسببت لابني الكبير بمشكلة، عندما قرر العمل في محل تجاري. كنت في كل زيارة إلى مكان عمله أواجه تحرشات لفظية من صاحب العمل، وعندما صددته، اتهم ابني بالسرقة وحصلت مشادة كبيرة بينهما، ورغم تدخل أصحاب المحال الأخرى، إلا أنه تقدم ببلاغ إلى الشرطة و استعان بعناصر المخابرات ليعزز موقفه ضدنا ".
لحظات لا يمكن نسيانها، تقول سوزان و تجهش بالبكاء" أبلغني ضابط الأمن أن الشرطة المصرية لديها صلاحية إطلاق نارعلى أي سوري يتسبب بمشكلة.. انهرت في تلك اللحظة، و بدأت بالبكاء..تخيلت ابني و قد تم ترحيله ، و غادرت مصر بعد اسبوعين من تلك الحادثة إلى لبنان".
في تركيا..ابن البلد لم يكن السند
الحادثة الأخيرة جعلت قرار المغادرة والرحيل أمراً لابدّ منه، وعادت من جديد إلى لبنان؛ بهدف المغادرة إلى تركيا.
وصلت مدينة غازي عينتاب جنوب تركيا، واعتقدت أنها ستكون الرحلة الأخيرة " بدأنا بالبحث عن العمل أنا وأولادي الكبار، لكن عدم امتلاكنا مؤهلات مهنية، جعل فرصتنا في الحصول على عمل أمرٌ في غاية الصعوبة.
لم توفق سوزان وعائلتها في هذه المدينة الصغيرة، في إيجاد عمل فقررت الذهاب إلى مدينة اسطنبول و حاولت أن تعمل من المنزل، و اضطرت إلى تركيب (الأزرار) لورش تصنيع الألبسة بمبلغ زهيد جدا لا يتجاوز ال 100 ليرة تركية.
اختلاف الشعوب لا يعني أن يكون هناك نظرة مختلفة للمرأة الوحيدة، ووجودها كامرأة في تركيا لوحدها، مرة أخرى جعلها عرضة للتحرش و سبب أيضاً في فقدانها فرص العمل.
في احدى المرات، تقول سوزان" ذهبت لأتقدم بطلب توظيف و بينما كنت اقابل مدير الشركة، دخلت زوجته و نظرت إلي نظرة عرفت من خلالها أني فقدت فرصتي في العمل"."وعندما عاودت الاتصال به للتأكد من حصولي على الفرصة، اعتذر مني، و أخبرني أنها لم تعد موجودة".
تتابع سوزان قصتها و هي تشعر بالمرارة، عندما تستذكر موقف بعض الأفراد الذين يمثلون المعارضة السياسية و كيف حاول البعض منهم أيضا النيل منها كسيدة.بعد كل هذه الظروف و ما مر على سوزان من قلة المال و الطرق المسدودة التي واجهتها في البلاد التي أقامت فيها، لم يعد هناك من متسع للتفكير بالبقاء لفترة أطول في تركيا.
"لم يكن أمامي أي مجال للتردد باتخاذ قرار السفر بالبحر إلى أوربا، حاولت ألا أفكر دوماً بالتردد حتى لا أتراجع عن القرار".و بدأت روزنامة السفر بالعد "وضعي المالي كان سيئاً و لم يعد لدي وقت فأموالي قاربت على النفاذ ولم يعد أحد من المحيط قادراً على مساعدتي".
تحاول سوزان لملمة شريط الذكريات في حديثها "استذكر كيف ودعتني جاراتي التركيات على الطريقة التركية، و رشّوا المياه عند خروجي، إحداهن طلبت مني أن أترك مفتاح البيت حتى أجده إذا عدت، ولكنني أخبرتها أنني لن أعود".
مع نهاية عام 2015 شهد العالم أكبر موجة لجوء، ووصل عدد اللاجئين في الشهور الأربعة الأولى إلى نحو 26.000 شخص، وقد وصل إلى أوروبا في عام 2016، حسب المنظمة الدولية للهجرة إلى 192.500 لاجئ.
مواجهة الموت
قررت سوزان إرسال أبنائها على دفعات؛ تحسباً من غرق العائلة بأكملها، وبذلك تضمن عدم تعرض العائلة إلى الفناء في البحر. وصل الأولاد الكبار إلى ألمانيا، و بعدها جاء دور سوزان والطفلين، و مع كذب المهربين لم تنجح الرحلة الأولى، و تولى ابنها سوزان الأوسط مهمة التواصل مع المهربين، وكان يتابع معهم التفاصيل حتى حان موعد السفر.
انتظرت الرحلة القادمة، و فعلاً صعدت سوزان إلى القارب وهي تحاول أن تستجمع شجاعتها حتى تقنع طفليها أن المغامرة لن تنتهي بالموت فهناك حياة أخرى بالانتظار.
وأصرّ عمر ابنها الأصغر أن يأخذ معه دفتر الرسم والألوان، في حين لم تأخذ سوزان معها أي شيئ من متعلقاتها. أثناء الرحلة كانت معظم الوجوه مرتاحة في البداية و متحمسة، ولكن عندما توقف المركب وبدأ بالغرق، لم يكن أحد ينظر إلى الآخر، الجميع كان يدير وجهه وكأنهم يهربون من رؤية الخوف في وجوه بعضهم.
"المهربون حرامية ونصابين"، تقول سوزان: " كنت اسمع عن الرحل التي تغرق ، ولو أني شاهدت رحلة التهريب قبل أن أسافر لما اتخذت القرار".وتضيف: "وصلنا إلى منطقة نائية في إحدى نواحي أزمير.. المهرب أخبرنا أن المركب يتسع ل 25 لكن صعد فيه 45 شخص ، كان هناك شخصين جالسين فوقي في المركب و كنت اضم ابني خوفا عليه".
عندما توقف محرك البالم في منتصف البحر، بدا وكأنه يغرق ..هرج ومرج ساد المركب..أصوات بكاء الأطفال وعويل النساء، هو من تصدّر المشهد في تلك اللحظات، منهم من بدأ ينادي بإرسال الاحداثيات.. منهم من أراد أن يدخن سيجارة.
"آه..لقد فرقوني عن ابني الثاني و وضعوه في نهاية البالم ، وبينما كنت احتضن عمر واقرأ القرآن ، كانت عيني تحلق بابني..أخاف ألا أعرف أنه غرق لو حصل شيء ما فجأة"، هكذا وصفت سوزات لحظات الخوف من الغرق في البحر.
من شدة الرعب الذي عشته، كنت أحاول قراءة القرآن لم اكن امتلك القدرة على إكمال القراءة.غادرنا الشاطئ مع بالم آخر لكنه غرق أمامنا بمن فيه، و عند وصولنا إلى اليونان كانت سيارة الاسعاف بانتظار جثثهم عند الميناء.رافقتنا الدعوات و كلمة يالله على طول الرحلة، وعندما وصلت إلى الجزيرة اليونانية بدأت بالبكاء بشكل هيستيري.
لحسن الحظ صادفتنا سفينة حربية يونانية بعد توقف البالم في البحر ..لا أعلم إذا كانت نداءات الاستغاثة وصلت اليهم ...و عملوا على تقسيمنا إلى نساء واطفال ورجال، جعلوا الأطفال والنساء يصعدون الى السفينة و من ثم الرجال، و منذ ذلك الوقت وحتى وصولنا الى اليونان لم أرَّ ابني الثاني .حظنا كان أفضل من البلم الآخر الذي غرق كانت بانتظار جثثهم و الناجين منهم سيارات الاسعاف.
في الباخرة التي اقلتنا باتجاه أثينا طُلب مننا فرز اللاجئين العرب إلى جانب واللاجئين الآخرين إلى جانب آخر، و كانت النسبة الأقل من اللاجئين هي نسبة العرب ، بينما كان المعظم من جنسيات مختلفة.سلوفينيا كانت أقل الدول احتراماً للاجئين، حيث استقبلنا باشخاص يرتدون زياً غريباً أبيض، و كأننا نحمل وباء أو أمراض معدية ، و قاموا بوضعنا في خيم كبيرة و تم الاقفال علينا.
و لم تدفع سوزان أي مبالغ مالية في طريق من سلوفينيا وحتى ألمانيا، و لكن في كل ما سبق هي رحلة مدفوعة التكاليف بشكل شخصي، تقول: "لم نقض في كل دولة نزلنا فيها لأكثر من ساعتين، وكانت هناك تسهيلات لتوجيه قوافل اللاجئين إلى ألمانيا".
تقول سوزان حاسبني والد ابنائي على خياري في الخروج من البلد بسبب الأوضاع الأمنية، و قاطعني منذ وصولي إلى تركيا و منذ ذلك الوقت لم يعد يرسل مصروف للاولاد و انقطع الاتصال به بشكل نهائي . أول شخص تلقى الاتصال بوصولنا كان ابني الذي وصل إلى ألمانيا، و من ثم اخوتي في مصر و امريكا،أما زوجي تواصل معه فقط ابنائي.
توجه السوريون بأعداد كبيرة إلى أوروبا وقدموا نحو تسعمائة ألف طلب لجوء بين نيسان 2011 وتشرين الأول 2016. وقدم ثلثها في ألمانيا والسويد. ورغم وصول سوزان إلى ألمانيا وحصولها على حق اللجوء، إلى أنها قررت التوجه إلى فرنسا لتكون بالقرب من شقيقتها الصغرى.
فرنسا لا يمكنها أن تستقبل كل بؤس العالم!
وصلت سوزان إلى فرنسا، و تقطن في ضاحية تبعد عن العاصمة باريس نحو 65 كم في منزل لا تتجاوز مساحته الأربعين مترًا، مع طفليها.و التحق الأطفال في المدارس بشكل فوري، بعد 3 سنوات من الانقطاع عن التعليم بشكل شبه كامل.
"فرنسا لا يمكنها أن تستقبل كل بؤس العالم" جملة قالها رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق ميشال روكار، وهي الجملة العالقة في ذهن أغلب اللاجئين المنتظرين لمستقبلهم المجهول في هذه البلاد. حيث وصل عدد اللاجئين السوريين في فرنسا أكثر من ستة آلاف سوري لغاية عام 2016 حسب المكتب الفرنسي اللاجئين والمشردين.
ولكن المفاجأة كانت أن سوزان لم تحصل على حق اللجوء بل حصلت على حق الحماية لمدة عام ، وهي الآن قيد تقديم طلبات للحصول على إقامة لمدة 10 سنوات، وتبلغ كلفتها 269 يورو لعائلتها.و بعد كل هذه السنوات من الترحال، وبانتظار صدور القانون الفرنسي حول الهجرة يتساءل اليوم أبناء سوزان: هل هناك رحلة جديدة قادمة؟ هل سنغادر فرنسا ايضاً؟.