يتجه "وائل ر" كل صباح إلى عمله بمصنع للأدوات المنزلية، في منطقة "أفجلار" الصناعية بمدينة باسطبول التركية، ولا يعود حتى ساعاتٍ متأخّرة من الليل.
وصل الشاب البالغ من العمر 29 عاماً إلى تركيا قبل نحو عامين، ويبحث حالياً عن أي مكانٍ يلجأ إليه غير تركيا "فالعودة إلى سوريا أمر وارد ومن ضمن الخيارات" يقول وائل خلال حديثه مع "روزنة".
اقرأ أيضاً: العمال السوريون في تركيا.. ماكينات لا تهدأ وأجور لا تسد الظمأ
ويشرح بأنه سئم الحياة هنا، عمل متواصل دون راحة لمدة 14 ساعة يومياً، مقابل مبلغٍ لا يكاد يكفيه لتأمين مستلزمات حياته الأساسية.
يتنهّد قليلاً ويضيف: "أشعر أني في زمن الإقطاع، عملٌ مجهدٌ لساعاتٍ طويلة مقابل ثمن الطعام والشراب والمسكن فقط، رميتُ شهادتي في كلية الحقوق خلفي ولا أعرف ماذا أفعل الآن".
إلى العمل
على غرار "وائل" يعيش مئات آلاف العمال السوريين في تركيا ظروفاً لا يحسدون عليها، بدايةً بساعات العمل المرهقة، مروراً بالرواتب المتدنّية، وليس نهايةً عند عدم وجود أي تأمين على حياتهم وصحتهم وعملهم.
يتركّز العدد الأكبر من هؤلاء العمال في المناطق الصناعية الكثيرة الموجودة في اسطنبول، مثل: "أفجلار، أسنيورت، بيرم باشا، زيتون بورنو".
يُفاقم المشكلة عمليات النصب المتعمّدة من قبل أرباب عمل "سوريين وأتراك"، في ظل غياب تطبيق القوانين التي سُنّت حبراً على ورق، دون أن يتم تطبيقها على الأرض.
نزح إلى الجارة الشمالية تركيا حوالي 2.75 مليون لاجئ سوري بحسب الإحصاءات الرسمية التركية، يعيش منهم 2.5 مليون ونصف خارج المخيّمات في المدن التركية.
نسبةٌ ليست قليلة من هؤلاء السوريين من الشباب بأعمار تتراوح بي 18 – 35 الهاربين من الخدمة الإلزامية في سوريا، البعض منهم لديه شهاداتٍ جامعية أو ثانوية، رماها خلفه ودخل في سوقِ عملٍ لا تتوفر فيه أي معايير الراحة.
لا تأمينات
حدّد قانون العمل التركي الذي تمَّ تعديله في منتصف الـ2013 ثلاث مواد للعامل الأجنبي، إما مستثمراً أو مقيماً بصفة العمل لدة القطاع المستَثمر، أو حاصلاً على إقامة عمل، وبخلاف ذلك يُعتبر العامل مخالفاً للقانون ويعمل بالـ "الأسود".
في حديثٍ لـ"روزنة" يقول رئيس تجمّع المحاميين السوريين الأحرار، غزوان قرنفل: "إن السوريين الحاصلين على إقامة عمل نسبتهم تكاد تكون معدومة".
يعزي قرنفل السبب في ذلك إلى كون إقامة العمل بحاجة إلى وثائق كاملة مثل جواز السفر السوري وختم الدخول إلى تركيا، إضافة لوجود الإقامة السياحية وعدم مخالفة مدة الإقامة، كون الدخول والخروج بات مستحيلاً بعد فرض الفيزا على السوريين.
في المقابل فإن أرباب العمال الأتراك، غير مضطرين لتفعيل إقامة عمل للاجئ السوري كون هذه الإقامة تحتاج إلى دفع مبلغ 500 ليرة تركية بشكل شهري، على ما يشير محمد نعسان، وهو مسير معاملات للسوريين في اسطنبول.
يضيف نعسان: "هذه الإقامة تجبر رب العمل على توقيع عقد مع العامل السوري والتأمين على صحته وحياته، إضافة للتأمين على دخله في حال انقطاعه عن العمل"، على أساس كلام نعسان فإن استخراج إقامة عمل للاجئ السوري لا يصب في مصلحة رب العمل التركي حتى في حال وجود الوثائق.
ساعات عمل طويلة وانتاج مضاعف!
في الجلسة التي جمعتنا مع أحمد سليمان في سكن شبابي بمنطقة "اسنيورت"، التقينا صديقه عيسى، الذي يحمل شهادةً في الاقتصاد وهرب من سوريا بسبب تخلفه عن الخدمة الإلزامية بجيش النظام.
اقرأ أيضاً: معامل تركية تدور بأيدي أطفال سوريين!
يحكي الشاب البالغ من العمر 25 عاماً قصة معاناته مع ساعات العمل الطويلة:" نصف ساعة استراحة فقط مقابل 13 ساعة عمل طول النهار بلا توقّف، عندما أعود إلى المنزل لا أستطيع التحدث مع خطيبتي في سوريا من شدة تعبي حتى أني أصل إلى الفراش جثّة هامدة".
يؤكد عيسى أن الضغط سببه الساعات الطويلة والطاقة الكبيرة في العمل والإنتاج بمعمل التطريز، موضحاً: "الأقمشة التي من المفترض أن نطرّزها بإسبوعين ننهيها بأسبوع واحد أو أقل، وما إن توقّفنا باستراحة حتى يصيح بنا رب العمل "جابوق جابوق" والتي تعني أسرع باللغة التركية".
يستحضر عيسى قصّة فتاة أُغمي عليها في الورشة، ولم يرض رب العمل تركها تغادر إلى البيت إلا بعد ضغط من العمال.
ورغم تحديد "وزارة العمل التركية" الحد الأعلى لساعات العمل بـ10 ساعات، إلا أن اللاجئ الذي يطالب بتطبيق هذا القانون يأتيه جواب: "إذا لم يعجبك بإمكانك المغادرة".
أجور لا تسد الرمق
مقابل ساعات العمل الطويلة، لا يجد العمال السوريون مردوداً مادياً يحقق لهم حياةً كريمة، ورصدت روزنة بعد مسح أجرته على عدد من العمال السوريين أن الرواتب تنخفض لتصل إلى 700 أو 800 ليرة في حدّها الأدنى، وذلك في وقتٍ حدّد قانون العمل الخاص بالسوريين الحد الأدنى للأجور بـ 1300 ليرة.
على أن الحد الأدنى للأجور 1300 ليرة "450 دولاراً تقريباً"، فإنه لا يكفي لإعالة أسرة سورية تعيش في تركيا.
رصدت "روزنة" المصاريف الأساسية التي تحتاجها أي أسرة سورية تعيش في تركيا، وهو ما يُعرف بـ"حد الكفاية"، إذ أن متوسط آجار المنزل مع فواتير المياه والكهرباء والغاز والانترنت يبلغ 1000 ليرة، في حين تحتاج الأسرة إلى حوالي 700 ليرة بشكلٍ متوسط ثمن الطعام والشراب، وبالتالي فإنه حتى لو تطبّق قانون الحد الأدنى للأجور فإن ذلك لن ينصف العامل السوري، الذي ترك خلفه أسرةً كاملةً بحاجةٍ لإعالة بمبلغ لا يقل عن 1700 ليرة شهرياً.
لا يطلب "حسام" إلا راتباً يكفي معيشته، يقول الشاب الذي يعمل في مصنع "تريكو" لـ "روزنة": "دوام 13 ساعة يومياً وراتبي 1200 ليرة شهرياً، في حين أحتاج لمصاريف أكثر من هذا المبلغ بكثير"، ويتابع:" زوجتي حامل واقتربت من أن تلد، وأجور التوليد في المشافي مرتفعة جداً وفي كل مرة أذهب فيها إلى المشفى يطلبون "كيملك" ولا أستطيع أن أفهم على لغتهم شيئاً".
كفاءات علمية انتهت في المصانع
من هم العمّال السوريين في تركيا؟ وما مستوى ثقافتهم ومدى استعدادهم للخوض في غمار تجمّعات المصانع؟ هذه الأسئلة يجيب عليها بحثاً مسحياً أجرته "روزنة" شمل مقابلات مع عينة عشوائية قوامها 100 عامل في المدن الصناعية في مناطق: أسنيورت، أفجلار، بيرم باشا، زيتون بورنو، في اسطنبول.
اقرأ أيضاً: تدريبات مهنية مأجورة للسوريين في تركيا
تبيّن في النتائج أن عمر العمّال السوريين تراوح بين 17 – 38 عاماً، أي أن المتوسط العمري 27.5 عام، ويعود ذلك إلى أن معظم العمّال هم من الشباب الهاربين من الخدمة الإلزامية، كما أن أرباب العمل الأتراك يشترطون الطاقات الشبابية لتحمّل ضغط العمل.
وخرج المسح بنتيجة أن نسبة العمال السوريين الحاصلين على إجازات جامعية، بلغ 21%، فيما يحمل 43 عاملاً الشهادة الثانوية بفرعيها العلمي والأدبي.
لم يكن يتوقع "سليم الرجواني" أن ينتهي به المطاف عاملاً في مصنع "أمبلاج" أو تغليف الألبسة، بعد أن درس 5 سنوات في الهندسة المدينة.
حصل حسام على لجوء إنساني إلى الولايات المتحدة، لكن الشرطة في مطار أتاتوك منعته من الصعود إلى الطائرة بحجّة "الاستفادة من خبرته العلمية".
يقول سليم لـ "روزنة": "أي خبرة علمية يريدون الاستفادة منها وأنا أعمل 12 ساعة في المصنع؟"، مشيراً إلى أنهم لم يؤمنوا له عملاً في مجاله ولم يسمحوا له بالسفر ليكمل حياته.
قوانين بلا تنفيذ
أصدرت "وزارة العمل التركية" في 15 كانون الثاني/ يناير من عام 2016 قانوناً نظّمت به عمالة السوريين في تركيا، ولا سيما اللاجئين منهم الذين لا يمتلكون وثائق خاصّةً بهم.
حيث نصّ القانون على ألا يتجاوز عدد العمال السوريين في أي مؤسسة تركيا 10% من مجمل العمال، لكنه بالمقابل فتح الباب أمام الحصول على "تصريح عمل" خاص باللاجئين السوريين.
ونصّ القرار أيضاً على تحديد الحد الأدنى للأجور بـ 1300 ليرة تركية، وساعات العمل بـ 10 ساعات يومياً مع يوم عطلة بشكل اسبوعي.
غير أن هذه القوانين لم تجد أي تنفيذ على الأرض لا من ناحية ساعات العمل ولا الحد الأدنى للأجور، يرجع رئيس تجمّع المحاميين الأحرار غزوان قرنفل السبب في ذلك إلى أن رب العمل التركي غير مُلزم بتطبيق هذا القانون.
ويضيف قرنفل أن رب العمل التركي "البترون" يُشغّل اللاجئ السوري إما لتشغيله ساعاتٍ إضافية أو لإعطائه أجراً قليلاً، أما إذا أُجبر على معاملته كمعاملة التركي، فإنه ليس مضطراً لتشغيل السوري إطلاقاً.
وعلى هذا الأساس انتقد قرنفل هذا القانون لأنه غيّب جانب التطبيق، ولم يضمن حصول العمّال على حقوقهم، مقترحاً أن يتم منح أرباب العمل الأتراك حوافز مقابل تشغيل السوريين وفق الأطر القانونية، كخصم من ضريبة معينة مقابل تشغيل 10% من السوريين بمصنعه بظروفٍ جيّدة، ويقول: "غير ذلك فإن مأساة العمّال لن تشهد أي تحسّن".
ويوضح قرنفل أن القانون الذي لا يشمل آلية تطبيق لا قيمة له، لذلك من الضروري وجود محفزات تدفع رب العمل التركي إلى تشغيل السوريين، مشيراً إلى أن المشكلة الأساسية تتمثّل بعدم التواصل نهائياً بين السوريين والأتراك لا على مستوى المواطنين ولا على مستوى المؤسسات.