سما تسأل: لو فرضنا بعثاً

سما تسأل: لو فرضنا بعثاً
القصص | 18 يوليو 2016

العام (1972) في قرية (المويلح) شمال دير الزور حيث تجول كاميرا المخرج الراحل عمر أميرلاي مصوراً فيلمه التسجيلي "الحياة اليومية في قرية سورية"، ويسأل أميرلاي مختار القرية في سياق الفيلم:

"- إيمتى قامت الحرب بيننا وبين إسرائيل؟"

فيجيب المختار الأمِّي:

"- مدري 1956 أو 1967 ؟!"

مُنع الفيلم من العرض حينها رغم أنه من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، نظراً لما دحضه من حقائق عن ثورة البعث وتنميته للريف النائي واستصلاحه أراضيه الزراعية.

اليوم وبعد مرور أكثر من أربعين عاماً على جواب المختار، وأكثر من خمسين عاماً على استلام البعث لبناء سوريا الحديثة، وسوريا التطوير والتحديث، تجول كاميرا قناة سما، لكن ليس في قرية نائية هذه المرة، بل في شوارع عاصمة "سوريا الأسد" لتسأل: "لو فرضنا جدلاً؟" وتحصد الجواب أنْ لا جدل تطوَّر في عقلية قاطني هذه البلاد طيلة تلك الفترة، وكأنها تقدم الجزء الثاني من فيلم أميرلاي دون أن تدرك، ودون منعه من العرض هذه المرة.

منذ استلام البعث للسلطة في سوريا، استلم البلاد كاملةً من "بابها إلى محرابها" وفق المادة الثامنة للدستور الذي وضعه، وبدأ بتلقين ايديولوجيته للأجيال المتعاقبة وأفكاره وشعاراته وهتافاته حتى بات حفظها فرضاً ونسيانها تقاعساً ورفضها خيانةً، لتكتمل تلك الحلقة بجهازٍ أمني كانت فروعه أكثر من فروع الجامعات، وشُعبٍ حزبية تعدادها أكثر من المدارس، فلكل قريةٍ شعبة حزبية وليس لها بالضرورة مدرسة. بالإضافة لإعلام لا يكل من تكرار ذات الخطاب عن الأمجاد الصاعدة والرجعية المكيودة والعدو المقهور من تقدمنا والتفافنا حول قيادتنا، والمنتظر لحظة ضعفنا أو شرودنا عن عقيدتنا الحزبية ليُسرِّب غزوه الثقافي لعقولنا. وهكذا سارت البلاد سير عرضٍ عسكري خمسين عاماً بفصائلها الثقافية والفنية والمهنية والفلاحية والتجارية وحتى أحزاب جبهتها التقدمية حول الحزب القائد للدولة والمجتمع.

وبذلك تخرج جيل بعد جيل صوته صوت السلطة، مقياسه للخير والشر مقياسها، وعدوه عدوها وإن كان أخيه أو حتى ذاته، فخوف الصوت الداخلي كان هو الأبرز والمسبب الأكبر لاغتراب الناس عن ذواتهم وعن بعضهم البعض، وعليه تكسَّرت صلات التضامن بين الناس وطغت العلاقات الخطية المباشرة مع السلطة، وبات حضور أي شخص هو حضورٌ للسلطة واحتمال مخبرٍ لها، وبذلك كان كلام الناس بين بعضهم لا يخرج عن كلام السلطة وتأييده، وكأن الفرد يقابلها مع كلِّ آخرٍ يقابله، وعليه أن يؤكد ويجدد ولاءه لها أمامه، بالإضافة إلى تجديده الجماعي في المناسبات والاحتفالات الجماهيرية التي تقيمها السلطة وفي البيعات المتكررة التي كانت بمثابة إعادة سبرٍ واختبار للشعب للتأكد من خلوه من بكتريا التمرد، بدل أن تكون اختباراً لنجاح عمل السلطة، كما في سائر الدول.

وبذلك ابتعدت الانتخابات عن أن تكون صوت الفرد، فصار لا مبالياً بها ولا يهتم لصوته فيها، وكثيراً ما يرسل السوريون هوياتهم لمراكز الإقتراع مع أحد أفراد العائلة، فلا حاجة في الانتخاب سوى تسجيل المشاركة فقط. ولم تُترك تلك العادة حتى في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة قبل شهرين.

من كل هذا كيف للفرد أن يكون له صوتاً فريداً يعتدُّ به ويُمايزه عن صوت السلطة، هو من اعتاد أن كل الدروب توصل إليها، وأن "للجدران آذان" وتصريحه لأي وسيلة بمثابة تصريح أمام السلطة نفسها، وعليه أن يؤكد أقوالها عن المؤامرة وأن كل من في الخارج مشروع عميل وكل منظمات العالم الحقوقية ومجلس الأمن والأمم المتحدة متربصة ببلادنا. حيث يُجيب أحد الأشخاص عن سؤال برنامج قناة سما حول قرار الأمم المتحدة بنقل خط الاستواء لدمشق قائلاً: "كل ما تفعله الأمم المتحدة سلبي حتى لو كان إيجابياً"

وكأنه ينطق باسم السلطة وما ربَّته عليه، بعد أن رأى في الكاميرا امتداداً لها -كما تعودنا- فحاذَرَ زلَّة اللسان أمامها، حيث لا يهم السؤال بل سكينة الجواب، وعليه يضيف آخر: "نأمل أن يعود القرار بالخير على البلاد والمواطنين". فعن أي ذاتٍ تبحث القناة بعد عقودٍ من التلقين والترهيب والتخويف من مجرد الشك بوجود تناقضٍ في طرح السلطة ورؤيتها؟.

لم يعد ممكناً قيام مسيراتٍ جماهيرية كبيرة تؤكد لمسؤولي السلطة نجاح عملهم في بسط الولاء، وتُظهر ذاك الولاء للخارج، فكان برنامج سما المتنقل في شوارع دمشق يعيد التأكيد، ويزيد من قهر الشعب بإظهاره بصفة الجاهل الذي لا يستحق إلا الحكم العسكري، لكن بلقاءاتٍ فردية لا مسيرات جماعية هذه المرة. فتبحث الكاميرا فيما إذا تغيَّر الناس عما كانوا عليه في بداية استلام البعث للسلطة، وكأن أميرلاي يسأل في ذاك الوقت: "لو فرضنا بعثاً؟" فتردُّ كاميرا قناة سما اليوم: "من شوارع دمشق، إليك الإجابة".

*مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق