يُحكى أن الملك "ديونسيوس الاول" الذي حكم سيراقوصه في القرن الرابع قبل الميلاد، ووصفه المؤرخون بأنه 'أعتى طغاة الشرق'، كان يكتب الشعر مُعتقداً أنه أحد فحوله. وقد ارسل يوما الى الشاعر "فيلكسنوس" ليُسمعه شعره ويطلب رأيه في 'موهبته الشعرية'. أجابه "فيلكسنوس" أن ما سمعه غثٌّ لا قيمة له. فحكم عليه الملك بالأشغال الشاقة المؤبّدة في المحاجر.
بعد زمنٍ كابد فيه "فيلكسنوس" عذاب السجن، عاد الملك فأرسل إليه ليُسمعه 'تراجيديا' ملكية جديدة، عسى أن يكون الرجل قد تاب عن أفكاره، وقرر -بعد ما عاناه- أن يعترف بموهبة الملك.
تذكرت قصة الملك والشاعر وأنا اشاهد لقاء الرئيس السوري بشار الأسد مع قناة SBS الأسترالية بتاريخ 1 تموز / يوليو 2016، فبعد أكثر من خمس سنوات على اشتعال الثورة السورية، عاد الرئيس ليؤكد أن مظاهرات 2011 التي شارك بها ملايين السوريين في طول البلاد وعرضها، كانت مؤامرة: “أغلبية أولئك المتظاهرين كانوا يتلقون أموالاً من قطر للتظاهر"!
بغض النظر عما يعنيه اتهام الرئيس للملايين من شعبه بأنهم مرتشون، أليس من الغريب إصرار الرئيس على نفس الرواية؟! هل يتوقع أن يوافقه السوريون -نتيجة ما عانوه خلال سنوات الثورة- ويصدقوا أنهم كانوا يقبضون خمسمائة ليرة للخروج في مظاهرة؟!. يرى "السيد الرئيس" أن أكبر دليل على أن الأزمة كانت مؤامرة ولم تكن تتعلّق بالإصلاح، هو أنه استجاب لمطالب المعارضة فلم تنته الأزمة: “قمنا بجميع الإصلاحات المطلوبة بعد بداية الازمه، غيّرنا الدستور والعديد من القوانين التي طالبت بها المعارضة ولم يتغيّر شيء!".
هل كان ذلك ما طالب به الشعب في مظاهراته؟ ألم يقرأ الرئيس اللافتات الكبيرة التي غطّت الساحات والجدران وكُتب فيها: 'مــــــا منحبــّــك'. ألم يستمع لمئات آلاف الحناجر تصرخ وتردد: ' ما منحبّك ما منحبّك، ارحل عنا أنت وحزبك'. ألا يعلم "السيد الرئيس" أن تغيير الدستور أو القوانين والوزارات لا يعني شيئاً في بلد تتجسد فيه كل السلطات بشخص واحد هو "السيد الرئيس" فيصبح الدستور والمجلس النيابي ومؤسسات الدولة مجرد ديكور!.
يهاجم "السيد الرئيس" السياسيين الغربيين "من الدرجة الثانية"، ويصفهم بالانفصال عن الواقع، والدليل: نتائج الاستفتاء: "أولئك المسؤولين الذين كانوا يقدّمون لي النصائح حول كيف ينبغي أن اتعامل مع الأزمة في سوريا، ويقولون أن على الأسد أن يرحل وأنه منفصل عن الواقع، تبيّن أنهم منفصلون عن الواقع، وإلا لما طلبوا إجراء هذا الاستفتاء". والاستفتاء المقصود هو الذي جرى في بريطانيا مؤخراً وصوّت فيه الشعب لصالح الخروج من الاتحاد الاوروبي.
برأي "السيد الرئيس" طلب اجراء الاستفتاء يدل على ان السياسيين البريطانيين منفصلون عن الواقع، فكيف يطلب "كاميرون" رئيس وزراء انكلترا استفتاءً، فيصوّت البريطانيون بغير ما يشتهي!. يعتقد "السيد الرئيس" ان مقياس نجاح السياسي، معرفته لنتائج الاستفتاء قبل اجراءه، كما يحدث في الاستفتاءات السورية منذ ثورة البعث التي تعاملت مع الشعب بصفته "رعيّة". وينسى "سيادته" ان الشعوب في النظم الديمقراطية كبريطانيا -التي عاش فيها وعرفها- هي شريكة -على الاقل- لا تسمح بسياسيين 'من الدرجة الاولى' يوجهون الاستفتاءات ويعرفون نتائجها ونسب المشاركة بها، وقد يقومون بالتصويت بالنيابة عن 'رعاياهم'.
لا يكفي أن يؤكد الرئيس بأن مجموعات المعارضة ليست كلها إرهابية بقوله: “عندما نتحدّث عن مجموعة مُعارضةٍ تتبنّى وسائل سياسية فان هؤلاء ليسوا ارهابيين". بينما لم يتسع صدره للانفتاح السياسي اكثر من سنة واحدة بعد توليه الحكم، ضيّقت بعدها أجهزته الأمنية على دعاة المجتمع المدني "ربيع دمشق" ووصفهم وزراؤه بانهم 'استعمار جديد' فحاكموهم وزجوهم في السجون، وصرّحوا على لسان وزير دفاعهم بأن المعارضة السياسية في سوريا تواجهها فوّهة البنادق: "لن نقبل بان ينتزع احد منا السلطة لأنها تنبع من فوهة بندقية ونحن اصحابها".
أليس مثل هذا التعامل مع أي صوت معارض إعلاناً بوأد أي محاولةٍ للإصلاح؟ أليس ذلك هو ما قاد الشعب إلى ثورة تتجاوز دعوة الإصلاح لتُعلن أن لابدّ من تغيير؟.
يختم "السيد الرئيس" اللقاء بالتعبير عن أمله بان يذكره التاريخ بأنه: “الرجل الذي أنقذ بلده من الإرهابيين ومن التدخل الأجنبي". يبدو أن "السيد الرئيس" يستشرف المستقبل، فيعبر بقوله السابق عن خشيته مما ستذكره كتب التاريخ. ومن حق "السيد الرئيس" أن يخشى التاريخ، أليس هو من دعا للوجود العسكري الروسي في سوريا حين قال للصحفيين الروس في 27 آذار / مارس 2015: “بالنسبة لنا، كلما تعزز هذا الوجود في منطقتنا كان أفضل (...)، اننا بكل تأكيد نرحب باي توسع للوجود الروسي في شرق المتوسط وتحديداً على الشواطئ وفي المرافئ السورية (...)".
أليس هو من طالب بوجود الفصائل الشيعية ودعمها لجيشه؟ ألا تفوق اعداد تلك الفصائل تعداد الجيش النظامي السوري الذي يقاتل على الأرض السورية اليوم؟!. هل يريد "السيد الرئيس" أن تتغيّر قناعات الشعب بعد ما عاناه، فيتوب، ويصدق خطابه!
بالعودة إلى قصة "فيلكسنوس" والملك. فبعدما أسمعه الاخير قصيدته الملكيّة الجديدة وسأله أن يبدي رأيه، وقف الشاعر صامتاً متفكراً، ثم مال على حارسه وقال له: 'عد بي إلى السجن'.
"السيد الرئيس": لن يتغير رأي الشعب 'ولو حُرق البلد'، ولن يتوبوا.. فالإنسان لا يتوب عن أفكاره.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".