بينما تدخل الحرب في سوريا عامها السادس، تخلو شوارع دمشق من الرجال المدنيين بشكل مخيف. بعد أن غادر الكثيرون إلى جبهات القتال، الآلاف منهم أخفوا أنفسهم بعيداً في المنزل خوفا من تجنيدهم بالقوة.
أحد أكثر الأشياء المدهشة في التجول في شوارع دمشق، وسط هذه الحرب الرهيبة، أنك ترى عدد قليل جداً من الرجال بينما ترى أطفال ومراهقين ومسنين، ورجال باللباس العسكري.
هذه ظاهرة شائعة الإنتشار بعد أي حرب، يتم إرسال الجنود للقتال حيث يموت كثيرون منهم. بحسب تقديرات المرصد السوري أن هناك 52,077 شخصاً على الأقل من أصل 250,000 شخص قتلتهم الحرب في سوريا كانوا جنوداً في جيش النظام السوري أو مقاتلين حلفاء للجيش، من بينهم كثيرون من أبناء العاصمة دمشق.
اعتقل النظام السوري آلاف الرجال وزج بهم في السجون حيث يواجهون ظروف رهيبة. بحسب منظمة العفو الدولية هناك أكثر من 65,000 شخص قد اختفوا قسرياً على أيدي عناصر أجهزة الأمن السورية منذ 2011.
آلاف عدة من الرجال غادروا العاصمة وانضموا إلى موجات النازحين من سوريا. بحسب تقديرات مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، أكثر من 4.6 سوري قد غادروا البلاد بسبب الحرب، معظمهم في دول الجوار مثل الأردن ولبنان وتركيا والعراق.
هناك ظاهرة غريبة انتشرت مؤخراً، وهي بقاء آلاف الرجال في منازلهم بعد استحالة خروجهم من المنزل بسبب الحملة التي قام بها النظام لسحب الشباب الذين أنهوا خدمتهم العسكرية إلى الخدمة الإحتياطية. بات من المعروف أن قوات النظام قد استنفذت طاقاتها خلال سنوات الحرب الخمسة، حتى أن رئيس النظام بشار الأسد اعترف بنفسه بضعف قدرة قواته على متابعة القتال.
بعض الرجال يرفضون التجنيد في الجيش لأنهم معارضون للنظام، في حين يخاف كثيرون آخرون من القتال على الجبهات بسبب انتمائهم الديني، حيث يعتقد البعض أن النظام السوري يتعامل مع الجنود المسلمين من السنة على أنهم أقل أهمية من الجنود من الطائفة العلوية الذين يتسلمون مناصب أعلى ويعملون في أماكن أكثر أماناً مثل المطارات والحواجز.
سامر، شاب من سكان الريف الجنوبي لدمشق، يذكر تماماً اليوم الذي لم يعد يخرج بعده من المنزل. كان هذا في صباح 26 تموز/ يوليو 2015، عندما تلقى اتصال هاتفي من أخيه أحمد يخبره فيه أنه ذاهب إلى الخدمة الإحتياطية في الجيش، على الرغم من أنه أنهى الخدمة العسكرية قبل ست سنوات. قانونياً، لم يكن من المفترض أن يتم سحب أحمد إلى الجيش مرة أخرى. طلب أحمد من أخيه عدم مغادرة المنزل إلا في حالات الطوارئ.
بحسب وثائق مسربة من شعبة التجنيد نشرها موقع زمان الوصل المعارض في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، زود النظام السوري جميع الحواجز بقوائم تحتوي على أسماء وتواريخ ميلاد 55,000 شاب ورجل متخلفين عن خدمة العلم. منذ ذلك التاريخ، تعمل نقاط التفتيش العسكرية المنتشرة في مناطق سيطرة النظام على فحص الأوراق الشخصية لجميع من يعبر منها.
"تحطمت أحلامي. أنا لدي إلتزامات عائلية، لدي ولدين بحاجتي أكثر من أي شخص آخر، لا أحد يستطيع الإهتمام بهم غيري، أعمل ليلاً ونهاراً لكي أتمكن من تأمين لقمة عيشهم"، هكذا قال سامر.
أخبرنا سامر أن أخاه أحمد اعتقل مؤخراً من على أحد الحواجز وتم سحبه إلى الخدمة الإحتياطية. أحمد لم يستلم أي تبليغ قبل أن تم سحبه من على الحاجز.
الحملة التي قام بها النظام لسحب الشباب إلى الخدمة العسكرية تركت الشباب الذين يعيشون في مناطق سيطرته أمام خيارين: إما طريق الهجرة غير الشرعية أو الذهاب إلى جبهات القتال. قال سامر بأنه لا يريد قتال أي شخص، “هذه الحرب ليست حربنا. ليس هناك أي سبب للقتال لأجله، ولا أحد يعلم متى ستنتهي هذه الحرب”، تابع سامر: "أعيش بخوف دائم منذ خمسة أشهر. أنا سجين في بيتي، لا أغادره أبداً. زوجتي تهتم بكل شيء. هي التي تشتري الطعام وتأخد الأطفال إلى المدرسة وتدفع الفواتير. كل مرة يطرق فيها أحدهم على باب منزلنا، أنظر إلى أولادي وكأنها ستكون آخر مرة آراهم. إسمي موجود على جميع الحواجز. أنا انتهيت، ليس لي مخرج".
أخذت النساء في العاصمة دمشق مهاماً كانت في السابق حكراً على الرجال، كما فعلت النساء في بريطانيا وأمريكا خلال الحرب العالمية الثانية. بشرى، 30 عاماً، قالت: "تغيرت الأدوار. الرجال في المنازل يهتمون بالأطفال بينما نحن في الخارج. المهمة الأصعب بالنسبة لي هي تسيير المعاملات في الدوائر الحكومية. هذه الأماكن صعبة على النساء لأنها مزدحمة جداً، ولا شيء يتم فيها إلا بدفع الرشاوى".
ناديا، 53 عاماً، قالت: "الوضع لا يحتمل بالنسبة للنساء في دمشق. الحمدلله أن زوجي قد سافر قبل ثلاثة أشهر، هو الآن في النمسا، وأنا سألحق به قريباً".
الأطفال أيضاً يقومون بمهام ليست لهم. أم نزير، 65 عاماً، تعيش في دمشق مع زوجها المسن، وتعتمد على إبنها زين الدين البالغ من العمر 11 عام في شراء الطعام والإنتظار في الطابور لشراء الخبز وجلب الحاجات اليومية الأخرى، بعد أن هاجر ولداها الأكبر سناً إلى ألمانيا والنروج. "سافر ولداي قبل أن يتموا السن القانوني لخدمة الجيش. لا يريدان أن يكونا جزءاً من هذه الحرب. يجب علي الآن الإهتمام بكل شيء بنفسي، ولكن إبني الصغير يساعدني كثيراً. أتمنى أن تنتهي الحرب قبل أن يكبر ويرحل هو الآخر".
إبن أم نزير، الطالب في الصف الخامس، أخبرنا بأنه يتغيب عن المدرسة أحياناً لأن والدته تعتمد عليه في أشياء كثيرة خصوصاً في جلب الماء، لأن المياه مقطوعة في أغلب الأحيان. يشتري زين الدين الماء من أحد الشاحنات ثم يحمله في أوعية بلاستيكية إلى المنزل.
في نفس الحي الذي يعيش فيه زين الدين يعيش صبي يدعى سامر، عمره 14 عاماً، هاجر أخاه الأكبر الذي كان يعيل أسرتهم قبل عامين وترك لسامر وأخته الصغيرة مسؤولية إعالة أسرتهم. يبيع سامر الخبز وأخته تعمل في شركة النقل العام. يقف سامر أمام الفرن في الطابور لساعات ليبيع لاحقاً ما اشترى من الخبز بمربح بسيط. يفكر سامر بترك المدرسة بشكل جدي لأنه يتغيب عن الكثير من الصفوف في المدرسة من أجل العمل.
قلة الرجال أدت أيضاً إلى انتشار ظاهرة جديدة أخرى، بعض النساء تتزوج للمرة الثانية مع أنها لا تزال زوجة لرجل آخر قانونياً، هؤلاء هن زوجات الرجال الذين غادروا البلاد أو الذين مضى على اختفائهم وقت طويل.
إياد حسن، باحث اجتماعي، طلب عدم ذكر إسمه الحقيقي لأسباب أمنية، قال: "تتلقى محكمة الأسرة في دمشق العديد من القضايا المتعلقة بنساء تزوجوا بعقود دينية دون الرجوع إلى المحكمة. هؤلاء هن نساء الرجال الذين غادروا البلاد أو مضى على اختفائهم أكثر من عام".
أخبرنا الباحث الإجتماعي عن امرأة من دير الزور جاءت إلى المحكمة لتتزوج، وأظهرت السجلات المدنية بأنها غير متزوجة فوافق القاضي على زواجها. اكتشف لاحقاً بأنها متزوجة من رجل آخر بعقد شرعي وأن زوجها السابق كان قد اختفى قبل عام، ولم يتم تسجيل زواجها منه في المحكمة.
أشار حسن إلى أن المحاكم في دمشق تتلقى أكثر من خمس قضايا إختفاء رجال يومياً. نظراً لارتفاع أسعار البيوت والمفروشات، يستغني العديد من المخطوبين عن حفلة الزفاف ويكتفون بمفروشات بسيطة لكي يتمكنوا من الزواج. قال حسن أن انتشار الفقر تسبب بانتشار ظواهر اجتماعية أخرى مثل الأعراس الجماعية والزواج المبكر.
تتألف المجموعة الإعلامية السورية المستقلة من خمس مؤسسات إعلامية مستقلة، تعمل معاً من أجل تسليط الضوء على قصص لا حصر لها من البلد الذي مزقته الحرب: "أريج" إعلاميون من أجل صحافة إستقصائية عربية، إذاعة روزنة، سيريا ديبلي، سيريا انتولد، مركز توثيق الانتهاكات في سوريا. والمشروع مدعوم من دعم الإعلام الدولي.