مراثي الليرة السورية

مراثي الليرة السورية
القصص | 04 يونيو 2016

يؤلمني أن أقرا شماتة الشامتين بانهيار الليرة السورية، وبالتالي أن أقرأ مراثيهم وأحزانهم حين يتحسن حال الليرة. ويؤلمني أشد من ذلك، أن يصنف النضال من أجل انهيار الليرة نضالاً ثوريا تحررياً.

ومع أنني لا أكتب هنا في الجانب الاقتصادي، ولا أزعم أنني أتابع بورصة العملة في سوق الأوراق المالية ولا ما ضخه المركزي وتضامنت معه المصارف المحلية، أو واقع حاجة السوق من القطع الأجنبي، غاية الأمر انني أتحدث في الجانب الإنساني لواحدة من أقسى أشكال المعاناة مع أهلنا في الداخل السوري.

يكتب البعيدون عن الوجع بقلم تائه، لا يدرك حجم المعاناة وكارثيتها في مجتمع فقدت عملته تسعة أعشار قيمتها، ولا يدركون حجم معاناة الناس في الداخل وهم يواجهون انهياراً هائلاً في سعر عملتهم دون أن يكون لديهم أي تعويض عما فقدوه، حيث يستمر النظام في التعالي على وجع الناس، ويرفض زيادة الرواتب بما يتناسب مع الكارثة الوطنية الماحقة، بحجة أننا في ساعات مواجهة، وأن شراء الأسلحة الجديدة لقتال الثوار وقصف المدن الثائرة، أولى من الخبز واللحم والطحين، الذي بات كثير من الناس عاجزين عن شرائه، في حمى هذه الحرب المجنونة.

وكل القراءات للعذاب السوري ترسم حقيقة واحدة وهي أن الذين يكابدون الكارثة في انهيار العملات هم المواطنون البسطاء الذين لا زالوا يتعيشون من رواتبهم بالعملة السورية، أما تجار الحروب فإن صفقاتهم كلها تتم بالدولار، ولديهم قائمة عملات من اليورو والاسترليني والاخضر والين تكفي لتحقيق كل مطامعهم والتقلب في رغد ما سرقوه من كد الناس وعذابهم، وفوق ذلك كله فإنهم لا يخجلون من إلقاء الخطب على الناس، بوجوب الصبر وشد الأحزمة والتمسك بالعملة الوطنية حتى يتم النصر ودحر الإرهاب.

كل مآسي النكبة يدفعها السوري البسيط الذي يعتمد على الله وعلى المال السوري، الذي يتلقاه راتباً أو كسباً، أما خطباء الوطنية والثورة فهم في عافية من ذلك كله وأرصدتهم في أمان، وكما يقول المثل الشعبي: "خبران لا يسمع بهما أحد: نزوات الأثرياء ووفاة الفقراء".

وإذا كان من الواجب التضامن مع النازحين، وهو حق مشروع، ولكن من الضروري أيضا التضامن مع المقيمين الذين تمسكوا بالأرض ورفضوا مغادرتها وأصروا على البقاء تحت البراميل ومدافع جهنم إيماناً بأن سوريا هي بالنسبة لهم وطن نهائي لا يستبدلونه بملك الدنيا، وهي ثقافة نبل وطهارة وإن كانوا لا يمتلكون الفصاحة والطلاقة التي يمتلكها تجار الحرب الجشعون وهم يخطبون في الناس بوجوب الالتزام الكامل بالوطن أرضاً وتراباً ومقاماً.

ومن الناحية الشرعية فإن كل أعمال التآمر على العملة، تقع تماماً في باب المحرم من الاعتداء على قوت الناس وحياتهم، وقد قال الرسول الكريم: "المحتكر ملعون والجالب مرزوق"، وفي الحديث الشريف أيضاً: من احتكر حكرة يريد أن يغالي بها على الناس فهو خاطئ ، وقد برئت منه ذمة الله.

وهي وصايا بالغة الدقة، وتنصرف إلى كل عمل فيه إضرار على الناس في أقواتهم وأرزاقهم، وقد عبر عنها الرسول الكريم بلغة أوضح بقوله: ما آمن بي ساعة من نهار من أمسى شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم.

في إدارة الحرب يمضي التوحش في ألعابه القذرة، ويقوم تجارالحرب بإرسال قوافل المحاربين للموت في الجانبين، أما المقاتل فإنه يقاتل بحماس دون أن يدري دوره الحقيقي في اللعبة الفاجرة، وأن عليه أن يموت من أجل أن تبقى الأنظمة والمصالح، وهكذا فإن الإدارات الشريرة للحرب ترسم خطواتها بدم بارد تماما كما في لعبة الشطرنج فتتساقط حصون وخيول وفيول ووزراء وجند بإرادة وعمد وتصميم، ولا يعقبها أي وخزة ضمير، ويتم تبرير الأنانية النهائية باشد مزاعم النبل والطهارة، حيث تكون التضحيات من أجل الوطن وتراب الوطن وراية الوطن وعلم الوطن، في حين أن التضحية في النهاية تكون في سبيل كرسي غاشم لا يمكن تثبيت المستبد عليه إلا عبر حجافل من الهالكين.

ولا يخجل المستبد في شطرنج الموت هذا من التصريح بأن استرتيجياته تقوم على أساس التمسك بسوريا المفيدة والتخلي عن سوريا الأقل فائدة، أو التي لا فائدة فيها!!

كان غاندي يكره لعبة الشطرنح، وحين سئل عن ذلك مراراً قال بوضوح لا أحب هذه اللعبة ولا أحترمها،  ولا أفهم لماذا يتعين ان يموت الحصان والفيل والقلعة والوزير وكل الجند من أجل أن يبقى الملك!

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق