قَبّلَ قائد جيش الإسلام رأس قائد فيلق الرحمن، بعد أن وقعا اتفاقاً، يُنهي حرباً استعرت لأسابيع متتالية، أودت بمئات المقاتلين، وهناك من يقول أن العدد فاق الألف؛ دماء هؤلاء الفقراء سالت بكثافة أكثر مما سالت في كل الحروب مع النظام. الأخير لم يستطع طيلة خمس سنوات أن يقتل هذا العدد الكبير من المقاتلين! القادة هؤلاء ليسوا معنيين بالدماء ولا بتقديم أسباب حقيقية وهم بذلك أسوأ من النظام الذي لديه حججه الكاذبة عن إرهابيين ومؤامرة كوكبية؛ القادة والنظام يتنافسان بقتل العدد الأكبر من شباب سوريا، هذا أقل استنتاج يمكن لعاقل أن يقوله.
في إدلب حصدت جبهة النصرة رؤوس المئات كذلك، وبحجج وهمية، وأخرها إعدام شابٍ من أوائل المشاركين بالثورة 2011 من بلدة سراقب، ولم تتوقف مظاهرات أهل معرة النعمان تنديداً بدورها في قتل وإنهاء وجود الفرقة 13، الجبهة هذه لا تحتكم لأي حكم قضائي ولو كان شرعياً في إدلب وفي أي منطقة بسوريا طالما هي المهيمنة، وتساوم حينما تكون ضعيفة، ولكنها تبدأ الحرب ضد الآخرين حالما تجد نفسها قوية، وقد صرحت أن معركتها ضد الفصائل الكفرة أهم من معركتها ضد النظام، هذا بالضبط ما جرى في الغوطة، فتحالفت مع مكونات جيش الفسطاط ووجدت أسباباً تسمح لها بحربٍ كارثية، ومكنت النظام ليتقدم في الغوطة ويقضم مناطق واسعة، لم يكن ليحلم بأن يدخلها من قبل. النصرة وجدت لتخريب الثورة ولقتل ثوارها وإطالة عمر النظام كما قال الظواهري ذاته، وليس لسببٍ أخر.
العمليات الجهادية التي أوقعت قرابة 400 ضحية في طرطوس وجبلة، والتي استنكرها السوريون والمعارضون باستثناء الطائفيين والأغبياء، تقدم مثالاً آخر على رخص الدماء السورية، والتي يمكن تفسيرها لاعتبارات شتى، كأن يقول النظام، راغباً في الاستفادة من التشدد الروسي لجعل هذه الحركة إرهابية ومشمولة في القانون الدولي ضد الإرهاب، أن أحرار الشام هم من قام بها، ثم لاحقاً يتبنى داعش العمليات، وهناك اختلاف على بيان داعش الذي يرد فيه كلمة علويين، فيما اعتاد التنظيم ومثله النصرة على تسميتهم بالنصيرية، وهناك من يحمل النظام مسؤولية العمليات مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، لأن تلك المناطق فيها تشدد أمني فكيف حدث ذلك من ناحية أولى ومن ناحية ثانية فهو المستفيد الأكبر من نتائج العمليات، فهو سيحشد مقاتلين جدد لدعمه وسيأخذ دعماً دولياً لأن الإرهاب يقتل المدنيين الأمنيين؛ نقول بغض النظر عن كل ذلك، فإن هؤلاء الضحايا والذين يسقطون يومياً في سورية، تقول دماؤهم الغزيرة أن لا قيمة لها لدى النظام أو لدى قادة الفصائل الإسلامية وغير الإسلامية.
هناك إشكالية كبرى في موضوع رخص الدماء، فقد سادت ثرثرات ليبرالية تؤكد أن البشر ارتفعت قيمتهم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وانتهى الزمن الذي يقتل فيها الإنسان لأتفه الأسباب، وهكذا. إن المقتلات التي حدثت طيلة التسعينيات وفي أكثر من قارة وأخيراً المقتلة السورية الكارثية توضح أن الليبرالية لا تعنيها حقوق الإنسان ولا حياة أو موت الناس. نقول ذلك، لأن المقتلة السورية تحدث أمام أنظار العالم بأكمله، والدول العظمى والمؤسسات الدولية والمنظمات المعنية بالإنسان وكل هذه الأكاذيب تشاهد وتبصر وينقل لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والأقمار الصناعية ومنظمات حقوق الإنسان السورية.
إن دماء السوريين تنقل طازجة إلى كل ركن في العالم والعالم لا يبالي ولا يهتم، إذاً، ما زال التوحش سائداً، ولم تنتقل البشرية إلى قيم جديدة بحق، وحالما تتهدد الأنظمة تسيل الدماء أنهاراً وتغدق لقوة السيلان!
القتل الذي حدث في سورية طيلة السنوات الخمس، والحروب التي لم تتوقف، والتي أنهت جيش النظام ومئات ألوف السوريين، وشردت أكثر من نصف السكان، والدمار الذي حاق بالمناطق الخارجة عن السلطة بشكل رئيسي، أليست كافية ليتحرك السوريون نحو بحث جدي عن حل لمشكلاتهم؟ لا أتكلم عن النظام فخياره الحرب، ولا عن المعارضة فهي تابعة للدول الإقليمية والتي هي شريكة في تخريب الثورة وتصفيتها، ولا عن الفصائل التي تعتاش بسبب الدعم الخارجي، وطبعاً الدول المتقدمة لا تهتم، أتكلم عن السوريين البسطاء، الفقراء، الوطنيين، الموجودين في كل أنحاء العالم وفي داخل سوريا، لهؤلاء أقول: ما لم تشاركوا في عمل وطني من أجل إنهاء المقتلة لن تتوقف إلا بما يؤسس لها؛ أقصد أن الحل السياسي سيكون تمثيلاً للقوى العسكرية على الأرض، والتي لا تعنيها الحريات ولا الديمقراطية ولا الناس وتضحياتهم، أي أن كل نضالات السوريين، وخاصة في السنوات الخمس السابقة توظفها من أجل مشروعها الفئوي، ويدعم رأينا هذا الألف قتيل في الغوطة مؤخراً، والمعارك الكثيرة التي اندلعت بين الفصائل من أجل مناطق النفوذ، وهذه المعارك ليست خاصة بداعش أو النصرة أو جيش الإسلام.
لم تستطع كافة الدعوات لإيقاف القتل أن توقفه؛ فهي دعوات مثالية في صراع المصالح الذي أصبحت عليه سوريا، وفي الصراع على السلطة بين الأفرقاء السوريين أنفسهم؛ وهنا يذكر أن من شجع على أوسع المجازر ليس النظام وداعموه فقط، بل وبعض تيارات المعارضة، والتي كانت تتوهم أن تلك المجازر ستأتي بالتدخل الخارجي؛ نقول إن خيار النظام الحرب تمّ مواجهته بالخيار العسكري أيضاً، ولكن الفصائل مارسته بعشوائية وفوضوية، ودون أي إستراتيجية عسكرية أو سياسية، وهذا ما لعب أخطر الأدوار في هدر دماء السوريين عبثاً، ومكّن الجهاديين والسلفيين من التحكم فيه، فهم منظمون ولديهم مشاريعهم الأصولية والطائفية.
إيقاف القتل يجب أن يكون جزءاً من مشروعٍ وطني للانتقال نحو دولة لكل السوريين وإجراء محاسبة لكل من مارس القتل خارج المعارك الحقيقية، وليس بينها معارك الغوطة أو من مارس مجازر طرطوس وجبلة والحولة وحمص والزارة، والمجازر التي لم تتوقف في كل مدن وقرى سوريا الثائرة.
مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".