لماذا لم ندرس في كتب التاريخ السوري عن رجال العهد الوطني والآباء المؤسسين للكيان السوري؟
هل يفيد اليوم تذكرهم؟
أعتقد بأن لدى السوريين من التجارب التي خبروها بين الاستقلال ومصادرة الحياة السياسية، ما يكفي لبناء جسر تم تحطيمه بين الأجيال الجديدة التي ولدت في عهد البعث حتى وصلت إلى عصر الثورة.
لو قيض لنا أن ندرس تلك الفترة الفوارة بالنشاط والتفاعل لكان على الأقل أنوجد في مخيالنا نماذج يمكن القياس عليها وتمثلها، فأمام هول العنف كان هناك فجوة سحيقة حملت الكثير من الناس إلى القرن الأول للهجرة للبحث عن تجارب مضادة للإبادة.
اقرأ أيضاً: صيف ملتهب في سوريا… مصير غامض ينتظر الأسد
سأذكر هنا بضع قصص متناثرة في كتب يعلوها الغبار أو موجودة في ذاكرة مشوشة، وأقول إن إعادة تضمين التاريخ الحديث للآباء المؤسسين للكيان السوري يمكن أن يكون حلاً مثالياً للجميع. نستند عليه إن كان هناك أمل ببقاء سوريا ما بعد الاستعمار.
أول مظاهرة نسائية في دمشق خرجت ضد الاحتلال الفرنسي. من جامع الأقصاب في ساروجة. تم إلقاء القبض على إحدى عشرة سيدة، وقدمن للمحاكمة. بتهمة المشاغبة وإقلاق الراحة العامة والتحريض على الثورة والعصيان.
قدم الإدعاء ممثلاً بمسيو مورغان مرافعته، فوصف السوريين بأنهم أنذال يختبئون في بيوتهم ويرسلون نساءهم للتظاهر في الشوارع. فتصدى فخري البارودي للمسيو مورغان بصفته نائباً عن دمشق في البرلمان، وأرسل منشورا قال فيه: "لقد أهنتم السوريين وهم لا ينامون على ضيم. أطلب منكم سحب كلمتكم التي أهنتم بها السوريين والاعتذار لشعبي الكريم وإلا فإني أدعوكم للمبارزة بالسلاح الذي تختارونه. وإن رفضتَ الاعتذار علناً في الصحف أو المبارزة فإني أُعدُّكَ جباناً".
شاع الخبر في دمشق وقامت قيامة الفرنسيين. واجتمع كبار القادة ورجال سلطة الانتداب للتباحث في هذا الموضوع الذي أصبح حديث دمشق. قرر السيد مورغان الذهاب للمبارزة، وهنا طار الخبر في كل سوريا وأصبح الترقب سيد الموقف.
عاد الفرنسيون للتباحث في الأمر، فوجدوا أن قتل المدعي العام سيجلب عاراً لفرنسا، وقتل البارودي سيؤجّج المشاعر والاضطرابات. فتوصلوا إلى قرار بأن يعتذر المدعي العام. وبالفعل تم الاعتذار العلني مكرهاً، اعتذار كامل وأطلق سراح السيدات من المعتقل.
اقرأ أيضاً: إدلب: لهذه الأسباب تزيد تركيا من تعزيزاتها العسكرية
تندرت سوريا طويلاً بهذه الحادثة. ووصل خبرها إلى المهجر، فكتب محرر جريدة البيان في نيويورك عن الحادثة. جملة ستبقى طويلاً في تاريخ ذلك النائب الدمشقي، "فارس لفارس، اثنان لفارس، ألف لفارس، فرنسا لفخري البارودي".
في زمن الانتداب قَبِلَ تاج الدين الحسني أن يكون رئيساً للحكومة تحت الاحتلال. كانت المظاهرات التي تندد به وبالانتداب تبتكر نوعاً من الطرافة في ذلك الوقت، وخاصة مظاهرات طلاب جامعة دمشق وكلية الحقوق تحديداً. كأن يقوم أحد الشباب المرفوعين على الأكتاف بترديد الهتاف التالي:
أنا تاج الدين حبوني، فترد عليه الجموع (خرايا عليك خرايا عليك)
مش سامع مش سامع .. فيرد الجمع (خرايا عليك خرايا عليك)
تاج الدين الحسني رفض فض المظاهرات وقمعها ولكنه توعد الطلاب بالرد قائلاً: "والله للحسكن قفاي".
وفعلاً أمر بأن تُطبع صورته بالطول الكامل على الطوابع الخاصة بالطلبة. فأصبح لزاماً على كل طالب يريد أن يتقدم بطلب للجامعة مرفق بالطوابع المالية أن يلحس قفا الطابع".
في عام 1943 طلب تشرشل من الملك عبد العزيز آل سعود أن يجتمع مع شكري القوتلي ليقنعه بضرورة توقيع اتفاق مع الفرنسيين من أجل عدم تشتيت قوات الحلفاء.
ذهب القوتلي إلى السعودية وقال كلمة لتشرشل وزير خارجية انكلترا: "هذا الرجل -مشيراً إلى الملك عبد العزيز- أغلى ما عندي في الدنيا، والله لو أراد إجباري على الاتفاق مع فرنسا لقاتلته. بينما لو طلب عيني لقلعتها بإصبعي وقدمتها له دون تردّد. ولكن لو حاول إرغامي على ما تطلبه مني لأعلنت عليه الحرب".
في اجتماع لمجلس الأمن، كانت قد طلبته سوريا من أجل رفع الانتداب الفرنسي عنها. جلس فارس بيك الخوري، ممثل سوريا في المجلس آنذاك، في مقعد النائب الفرنسي في مجلس الأمن. فلما جاء النائب الفرنسي وجد فارس الخوري جالساً في المقعد المخصص له، مما أثار غضبه، فطلب من رئيس المجلس أن يأمر فارس الخوري بإخلاء مقعد فرنسا والجلوس في المقعد المخصص لسوريا. وهنا كان رد فارس الخوري: "لقد جلست على مقعدك دقائق معدودة ولم تستحمل ذلك، فما بالك وأنتم تجثمون على صدورنا منذ خمس وعشرين سنة".
عام 1920 زار غورو القاهرة إثر دخوله دمشق واحتلال الفرنسيين لسوريا، فأقامت له المفوضية الفرنسية حفل استقبال فخم، دعت إليه الجالية الفرنسية. ووجهت الدعوة أيضاً إلى الجاليتين اللبنانية والسورية عن طريق صفحات الجرائد.
ذهب بعض اللبنانيين والسوريين إلى المفوضية لتحية القائد المنتصر مندوب فرنسا في القطرين. في تلك الفترة كان لفيف من الشباب السوريين واللبنانيين قد أنشأوا في مصر جمعية باسم (لبنان الفتى) لمناهضة السياسة الفرنسية الاستعمارية في الشرق العربي، وهالهم أن يحضر الحفل فريق من مواطنيهم بعدما بدر من الفرنسيين في سوريا. فدفعتهم حماستهم ونزوة شبابهم للتفكير بوسيلة تُشعر القائد الفرنسي أن في مصر قوة هائلة تتربص به، فقرّ رأيهم على إرسال سيلٍ من برقيات الاحتجاج إلى الجنرال غورو أثناء حفل الاستقبال. ونفذوا قرارهم فعلاً. وفي ساعة واحدة أو أقل، وصلت أربع وأربعون برقية، تحمل كلها أسماء جمعيات وهيئات لا وجود لها. بل اخترعوا هم أسماءها للتمويه والتهويل: جمعية لبنان الفتى، جمعية اليد السوداء، جمعية الانتقام، جمعية الاستقلال، لجنة تحرير سوريا ولبنان، لجنة الدفاع عن سوريا، لجنة محاربة الاستعمار... إلى غير ذلك من الأسماء.
كانت البرقيات تصل إلى المفوضية بالتتابع، فتُسلَّمُ إلى الجنرال وهو جالس في مقعده أو واقف بين مدعويه. كان يقرأها الواحدة تلو الأخرى، ويدسها في جيبه بحركة عصبية ظاهرة ويتجهّم وجهه. ثم أسرع فجأة إلى وزير فرنسا المسيو جايار، وقال له بلهجة متهدجة متأثرة: "قلت لي بالأمس ياسعادة الوزير، إن الجالية السورية اللبنانية ستشترك في استقبالي لأنها راضية بما حدث، ولكنني لا أرى من بين الحاضرين غير أفراد معدودين، في حين أن البرقيات تتوالى بمعدل واحدة كل خمس دقائق، فإذا كان هذا هو الرضا فكيف يكون الغضب؟".
دخلت فرشاة الأسنان إلى مدينة دمشق عوضاً عن نبتة المسواك عام 1914 قبل الحرب العالمية الأولى بأشهر قليلة، وبات 60% من الدمشقيين يمتلكون فرشهم الخاصة عام 1930.
ارتدت النساء الدمشقيات حذاءً بالكعب العالي مع صيف عام 1924 حيث أدخل تجار المدينة هذا المنتج إلى أسواق الحميدية وغيرها نقلاً عن باريس.
جامع بني أمية الكبير هو أول بناء تدخله الكهرباء في مدينة دمشق في شهر شباط من العام 1907، ودخلت الكهرباء إلى دمشق قبل أن تدخل إلى ولاية لوس أنجلوس الأمريكية بواسطة شركة بلجيكية اتخذت لها مقراً وسط دمشق، وأصبح هذا المقر نفسه مقراً لشركة كهرباء دمشق حتى هذه اللحظة.
أول مدرسة باليه في العالم العربي تأسست في دمشق في عام 1951 في منزل الوجيه مظفر البكري الذي كان متزوّجاً من الفنانة اليونانيّة آنا فرانكولي وكانت مأخوذة برقص الباليه فقررت إدخال ذلك الفنّ إلى دمشق.
الممثل والمخرج الكوميدي الشهير تشارلي شابلن زار دمشق لحضور افتتاح فيلمه "السيرك" في سينما "فلور دو داماس" في ساحة المرجة خريف العام 1929 وكان في استقباله السياسي السوري فخري البارودي.
يمكن أن نتابع سرد هذه القصص حتى تملأ مجلدات كاملة وبعدها قد نجد الطريق إما إلى التقسيم أو إلى الترميم، ولكن ستبقى هذه الأمثولات مجرد حكايات إن لم ينزاح عن المشهد الدكتاتور الضاحك وأصحابه وأشباهه من الأمراء والخلفاء المضحكين.
مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".