ليست الكارثة الموت فهو قدر كتبه الله على بني آدم، ولكن الكارثة في لغة الشماتة البهيمية، وهي لغة لم تعد قهقة فاجرة في حجرات مظلمة بل صارت فسبوكا وتويترا وانستغرام، وأصبحت كلمة العهر اللئيم قادرة ان ترقص على وجع المنكوبين وتعصف بآذانهم في ثواني قليلة، وبدلا من هيبة الموت وجلاله الذي يتسامى على الأنانية فإننا نتحول تلقائياً إلى دراكولا لا يرتوي من الدم إلا بالدم ولا يقرأ المستقبل إلا على نطع الموت والثأر، وهو التوحش الرهيب الذي حول الإنسان السوري إلى غريزة عمياء لا ترتوي إلا من قصعة الموت.
لم أتوقع يوماً أن أكتب للسوري في احترام نكبة أخيه، أو أن أطلب منه وقفة جلال للروح البريئة فالموت قدر كوني رهيب ينبغي أن تخضع له القلوب والجباه، ولكن السوري المنكوب لم تتوقف نكبته عند فقدان أشيائه وأحبته لقد أضاع أيضاً بوصلة آلامه وإنسانيته، وأصبح الموت نفسه موعد شماتة ومكر، وهو اسوأ أمراض الأمم، وبدلاً من أن يكون الموت درس جلال وموعظة ورهبة يتحول كل موت سوري إلى حزن هنا وشماتة هناك، مأتم وعرس، وعويل وشماتة، ومأساة وملهاة، ومكلوم وملؤوم ودامع وفاجر.
وتفجير طرطوس وجبلة الذين عصفا بروح نحو مائة وخمسين بريئاً من أبناء الشعب السوري المنكوب، ما هو إلا سلسلة من عبث الموت الغادر بدأ من درعا وبانياس والبيضا والرستن ومسكنة والمعضمية وداريا وغيرها من المدن السورية المنكوبة.
الفارق فقط بين الموت والموت هو أن الشهداء هنا يسقطون برصاص خائن غادر فيما يقتل الناس في داريا والمعضمية وجوبر ومضايا والزبداني برصاص وطني مقاوم!.
يصاب مواطنون أبرياء بجرات الغاز التي يطلقها ثائر بلا ضمير على حي بريء، أما المدن الكبيرة فهي تدمر بيتاً بيتاً بقنابل وطنية وقذائف عربية سورية نظامية مصنوعة في مؤسسة معامل الدفاع الوطنية، يصنعها جيشنا الوطني ويقصفنا بها مقاتلون نظاميون مسجلون في قيود وزارة الدفاع يهتفون كل يوم لسوريا وقائدها وترابها وأرضها.
إنها التراجيديا السوداء التي نذوقها كل يوم منذ بدأ هذا القهر المتوحش يلف حياتنا بكلكله ويمنع البسمة والفرحة والأمل والرجاء.
في كتابه إدارة التوحش يشير أبو بكر ناجي منظّر القاعدة الأبرز بأن المرحلة القادمة هي مرحلة توحش وإن التفكير في الحريات والعدالة وحقوق الإنسان هي أمور سخيفة وغير واقعية، بل إن علينا أن نتهيأ لمرحلة التوحش التي هي قدر وسنة لا تتخلف وأن رسالتنا تتلخص في إدارة التوحش وليس في إيقافه، ويقسم التوحش إلى مراحل ثلاثة الإنهاك وإدارة التوحش ثم التمكين.
لست أدري في أي قاموس يمكن أن نطلق على جرائم يمارسها الانتحاريون بهذه البشاعة إنها ثورة أو على جرائم البراميل أنها دولة، فلا الثورة موجودة في ضفة التوحش هذه ولا الدولة موجودة في برميل الموت ذاك، إنه إفلاس نهائي للطرفين المتحاربين وإقرار بالدخول إلى قانون الغاب من الافتراس والتوحش.
الشهداء الذين سقطوا في طرطوس وجبلة هم سوريون من كل الطوائف، ومن كل الاتجاهات والنازحون إلى الساحل السوري فيهم كل أطياف المجتمع السوري، وكل عنائه وقهره وعذابه.
ليست هذه أخلاق الثوار الذين عرفناهم في أبي فرات وهم يبكون لمصارع خصومهم المحاربين، وليست أخلاق الفرسان الذين يخجلون أن يضربوا بسيوفهم امرأة ولو كانت محاربة مقاتلة، ولا هي أخلاق الإسلام الذي يجعل قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعاً، والذي يعتبر أن هدم الكعبة أهون على الله من قتل بريء.
فيما كنت أعد برامج رمضان، هيأت برنامجاً تلفزيونياً خاصاً عن السلام، وفيه دعوة واضحة لتحريم الرصاص والسلاح، وحين عرضت البرنامج على أحد أصدقائي الإعلاميين الذي يدير أكبر قناة عربية قال لي باستغراب: كيف تستطيع أن تتحدث عن السلام والحرب تعصف ببلادك من القنيطرة إلى عين ديوار؟ وماذا سيقول عنك الناس؟ وهل أنت مستعد لاتهامات عاصفة بالعمالة والخيانة وتعطيل الجهاد والخنوع؟ انتظر حتى تنتهي الحرب ثم تحدث عن السلام!
وبقدر ما كان استغرابه كبيراً كانت دهشتي أكبر، وقلت له ببساطة إذا كنا لن نتحدث عن السلام يوم الحرب فما جدوى الحديث عن السلام يوم السلام؟
خطاب السلام شأنه أن ينطلق في ساعة الهول والموت وأن يكسر السيوف المتقاطعة، وأن يكف الأنياب والظافر المتشابكة عن ممارسة الخنق والذبح وإن يضع فيها المناجل بدل السيوف والأقلام بدل السهام والكلمة بدل الرصاص.
لا يريد الدهر أن نستفيق من هذا الكابوس الأسود، وكأن قدر هذه الأمة أن نموت حتى ينتهي الموت، وأن تشرب الأرض من نهر الدم حتى لا يبقى في سوريا المنكوبة بقية لروح تأسى لروح أو قلب ينبض لقلب.
سأظل أصيح في العالم ولو غدوت وحدي إن موقف النظام في استخدام العنف كان توحشاً وعهراً، وإن تسليح الثورة كان ضلالاً مبيناً، وإننا ارتكبنا أشد الخطايا بؤساً وجنوناً يوم رضينا أن يتحول هتاف الحرية والكرامة إلى هتاف ثأر وقهر، من قال أن الشر بالشر يطفئ فليأخذ نارين ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى؟ إنما يطفأ الشر بالخير، والنار بالنور، والموت بالحياة.
لا مجد لقذيفة ولا ضمير لرصاص ولا شرف لبندقية.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".