يعتبر الخوف لدى الإنسان من أهم العقبات النفسية في وجه تقدُّم الشخصيَّة ونموها وتفتح طاقاتها حين يتجاوز حدِّه الطبيعي، وقد يكون الخوف استجابة لمثيرٍ يتهدد الأنا واقعيَّاً، أو يعود إلى موضوعٍ قد سبقت فيه خبرة مؤلمة وخطرة.
في الحالة السورية، يشكِّل الخوف أحد أهم ركائز النظام السوري وأدوات سيطرته، وهو الخائف الأول الذي أسقط خوفه على الشعب، فقد جعل الفرد يخشى الإقتراب من رموزه ومختلف تشكيلاته، ويخشى الوقوف في وجهه أو مجرد عدم اشهار تأييده له، وصولاً إلى التوجُّس من الآخر مهما كان قريباً في العمل أو الدراسة أو الحي، مما أدَّى إلى تشرُّب الفرد للخوف واستقراره في أعماق لاوعيه، حتى أصبح يخاف صوته الداخلي، ويعمل على كبته، درءاً لخطر تمايز ذاك الصوت عما يتقبَّله النظام.
وإن تعايش السوريون مع الخوف فترة من الزمن، فقد بدأوا بكسر أصفاده والصراخ في وجه مصدره إبَّان ثورتهم. لكن خوفهم لم يتلاشَ، بل ازداد مع رد الفعل الممارس بحقهم في ظل غياب الإعلام وتقطيع النظام للبلاد وعزل مناطقها عن العالم الذي تركهم يواجهون مصيرهم بالاجتثاث وحيدين حين كانوا سلميين، مما دفعهم إلى التسلُّح والتقوقع ضمن روابطهم الطائفية والعشائرية، لحشد إمكاناتهم في تكتلات تضمن ترابط أواصرهم، خاصة مع تماشي هذا النهج من التكتلات المسلحة مع إرادة الدول المتدخلة في الشأن السوري وغايات النظام. مما دفع بالكثير منهم إلى التطرف أو الهرب بعيداً. فيما لجأ آخرون إلى النظام وإلى التماهي معه أكثر، خوفاً منه ومن الآخر الذي بات يخيف كعدوِّه.
قلة من السوريين ظلُّوا خارج ذاك الاستقطاب، فلم تسلم حتى المناطق الآمنة من انتشار الميليشيات المسلحة التي يحمل أفرادها سلاحاً يجعلهم يقتنعون بقوتهم وبُعدهم عن الخوف. ولا يعني استقرار تلك المناطق أنها خارج المعادلة إطلاقاً. ولنا في خروج مسلحي جرمانا منذ أيام فجأةً بوجه النظام رداً على اعتقال أحدهم دليلاً على احتقانهم وزيف استقرارهم الظاهري، ولنا في هدوئهم السريع بعد ذلك دليلاً على خوفهم من رد فعل النظام ومن الفوضى التي قد يستجلبها الانسلاخ عنه، والمستقبل الغامض لذلك، خاصة بوجود مسلحي المناطق المجاورة المتشاحنين معهم.
والخوف، هو الدافع، وراء الذين خرجوا في الساحل منذ أشهر ضد مقتل عقيد في جيش النظام من قبل أحد كبار الشبيحة إلى التأكيد على استمرار التصاقهم بالجيش ودعمه رغم احتقانهم من النظام، وخوفهم من النظام ضمنيَّاً لا يقل عن خوفهم من خصمه إنْ تخلوا عن تكتلهم.
ومظاهرات السويداء الأخيرة، لا تقوى على تحريك المحافظة كاملةً بوجه النظام، لخشيتها أذيَّته إن رأى انقلاباً صريحاً عليه، إضافة إلى خوفها من قرب "داعش" من شمال حدودها الإدارية.
في المقابل لم يتخلص السوريون في المناطق الخارجة عن سلطة النظام من خوفهم، بل إن خوفهم منه قد دفعهم إلى السكوت عن تجاوزات الفصائل المسلحة كي يحافظوا على تماسكهم. وعادت إليهم المظاهرات ضد النظام والفصائل على السواء مع بدء الهدنة وانخفاض وتيرة القصف. تلك الفصائل التي تقمَّصت سلوك النظام وإجرامه في أحيان كثيرة. والخائف يؤرقه خوفه والعدوانية المتراكمة بداخله، فيدفعه ذلك الى إسقاطه على الخارج، ويبرر جنوحه بشيطنة الآخر وجعله رمزاً لكل الشرور والقيم السيئة، فيؤيد قتله ويبيده دون تردد ليشعر بنصره وتفوقه عليه وأنه بات هو القوي الجبَّار الآن. وكلما كان إخراجه للخوف أعمق ودراميَّاً أكثر كلما شعر بالقوة وبتسيُّده خوفه وإبعاده عن نفسه أكثر (الزارا، استعراض الميليشيات الكردية للجثث في حلب).
ما دام الخوف متزعِّماً المشهد سيستمر حاصداً الأرواح في دربه، ولا نفع لخطاب العقل والتهدئة مع الخائف المتربص لخوفه بلا حل يُبعد عنه مصدر الخوف ويطمئنه. دون ذلك لن يزيد الخطاب عن كونه طوباوياً بغير مكانه وزمانه، ولن نحصد إلا مزيداً من الصراخ قتلاً وتعصُّباً طائفياً.
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".