حين كتبت مقالي السابق تحت عنوان "لا شرف لبندقية"، لم تكن الحرب قد اندلعت بين فصائل الثوار في الغوطة الشرقية، وكان نبيل دعاس يقوم بمسؤوليته النبيلة طبيباً شهماً شجاعاً كرس حياته لنساء دوما وربما كان الطبيب النسائي المتخصص الوحيد الذي يباشر عمله في الغوطة الشرقية.
نبيل الدعاس ليس اسماً عابراً في الثورة السورية إنه الطبيب الذي قام بأنبل وأطهر كفاح وتضحية في الغوطة الشرقية خلال سنوات خمس من عمر الثورة، وكان يقوم فيها بالتضحية كل يوم من أجل إنقاذ ما يمكن من حياة البؤساء الذين كتبت عليهم الأقدار أن يكونوا في الغوطة الشرقية في حمى الحرب المجنونة في سوريا.
بدأ كفاح نبيل وجهاده منذ بداية الثورة وحين كان النظام يدرج على قوائم المطلوبين الأطباء الذين يعالجون في المشافي الميدانية كان نبيل على رأس هذه القوائم، وكان يعلم تماماً أنه يقوم بأنبل عمل وأشرفه وأطهره، على الرغم من أهوال الموت التي تحيط به صباح مساء.
ومع أن طائرات النظام لم تقصر، في قصف كل مركز حيوي في الأراضي التي يسيطر عليها الثوار، ولكن القدر لم يكتب لهذا الطبيب المكافح أن تصيبه البراميل، ولكنه رحل ضحية حروب الإخوة الأعداء وقتلته النيران الصديقة في حرب مجنونة لا تبقي ولا تذر.
وبالتأكيد، فإن نبيل ليس الوحيد الذي قتلته النيران الصديقة، ولكن رحيله يفتح الصحائف المطموسة لشهداء كثير سحقتهم الحرب بجنونها، ولم يجدوا من يكتب عنهم أو يشرح ما قالته عيونهم وشفاههم، في لحظات الرحيل المأساوي الرهيب.
في حمى السلاح لا يتذكر المقاتل الذي يعقد زنار رصاصه على خصره حجم ما يحمله من مسؤولية، ولا خطورة ما تفعله أصابعه بلعبة الموت، فالسلاح كافر والرصاص قاتل، وله إغواؤه وإغراؤه، وحين وقع كبير المفاوضين على وقف القتال مع النظام ومضت ثلاث ليال هادئة بلا عنف ولا دم، تحركت مرة أخى غزيرة التوحش التي تسكن عادة في أخمص البنادق، وتوجه الرصاص إلى صدور الإخوة الإعداء، وعلى الفور حضرت التهم الدينية الجاهزة ضد الآخر بأنه مرتد وباغ وقتاله واجب، بل قتاله أوجب الواجبات وأولى من قتال اليهود والدواعش!
وأصدرت غرفة عمليات دمشق وريفها التابعة لفيلق الرحمن، مذكرة توقيف بحق كل من قائد "جيش الإسلام"، عصام بويضاني، ورئيس الهيئة الشرعية لـ"جيش الإسلام"، سمير كعكة، الملقب بـ"أبو عبد الرحمن"، بتهمة الخيانة الكبرى، وبرر فيلق الرحمن قراره بأن "جيش الإسلام"، فئة باغية ومتعدية وخارجة عن شرع الله.
ولم تتأخر الفتوى في الطرف الآخر، وتم اعتبار "فيلق الرحمن" أيضاً، فئة باغية ومرتدة ومحادة لشرع الله وقتالهم واحب شرعاً، وقتلاهم في الجنة وقتلانا في النار.
وحين تستيقظ غريزة الثأر، فإن المناشدات والفتاوى الدينية ثمنها شروى نقير في حرب التوحش، وحين هب شيوخ الثورة المسلحة الذين نادوا بالقتال ضد النظام، والذين عملو على تأسيس كتائب الجهاد، وفيهم الشيخ سرور زين العابدين والشيخ كريم راجح وعصام العطار وآخرون، وقدموا مناشدات معززة بالكتب والسنة وفعل السلف ووجوب حقن الدماء بين المسلمين لم تجد هذه الفتاوى والمناشدات من يقرؤها في حمى الثار وغريزة الانتقام الهائجة التي لا ترحم أحداً.
إنها الحرب.. بشروطها المقيتة في كل مكان وزمان، لا تحقق أهدافها إلا في معبد الدم، ولا وجود لسلاح طهراني، والسلاح البصير الذي كان يبحث عنه سعد بن أبي وقاص لا زال مفقوداً إلى اليوم، ولا زال سؤاله الذي طرحه قبل ألف وأربعمائة عام بلا جواب: من لي بسيف إذا ضربت به الظالم قطعه وإن ضربت البريء لم يضره!
لايمكنني في هذه المقالة، أن أوطئ القدم لأولئك الذين يطالبون باستسلام الثوار لتوحش النظام، فالنظام لم يقدم أبداً عرضاً حقيقياً بإنهاء العنف وقطع أسبابه وما يمارسه النظام هو التوحش ذاته، وإرغام الناس وإذلالهم بالبسطار على خياراته المتوحشة، ولا نملك بالطبع أن نوجه لهم النداءات الطوباوية بتسليم أعتاقهم للجزار.
ولكن غاية ما يمكن أن نقوله لهؤلاء اتقوا الله في بلادهم وأهلكم، وارسموا منهجاً سريعاً تتخلصون فيه من وهم الحسم العسكري والحربي الذي يمارسه النظام ويحرق به الأخضر واليابس، إلى خيارات السلام القوي القائم على تكافؤ الحقوق وإرادة الحياة.
لا تنتظر من مقالة كهذه أن تقدم الحلول، ولكن يكفي أنها تشرح مأساتنا التي دفعنا إليها العنف، وتعلمنا درس الحياة الأقسى، فالمعلمون أربعة: المدرسة تعلم والكتاب يعلم والأستاذ يعلم والدهر يعلم، والدهر أقسى المعلمين درساً وأكثرهم صرامة وحزماً.
سيعلمون وبعض العلم كارثة إذا تمرد وجه الدهر وانتصفا
*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".