لا شرف لبندقية

لا شرف لبندقية
القصص | 01 مايو 2016

وبعد خمس سنوات، لا يزال العنف سيد الموقف، ينطق الرصاص وتخرس الحكمة، ويمضي الانسان بغرائزيته وجنون ثأره إلى مسارح الموت، مدفوعا بغريزة الانتقام.

مرة أخرى على مسرح اللامعقول، نشاهد بأعيينا ما لم نكن نجرؤ أن نتخيله من قبل.

الجثث في مشفى القدس في حلب لا تزال تحت الأنقاض، أطفالاً ونساء وعجائز، بعد أن انقض طيار سوري متوحش على المشفى، والذي يعالج فيه سوريون آخرون، ليلقي حمم الموت بحقد أعمى، ثم يعود إلى أطفاله الذين طلبوا منه أن لا يتأخر على الغداء.

تتلقى حلب في يومٍ واحد ستة أشكال من جحيم الموت، فالنظام يقصف بطائراته، والروسي يقصف بصواريخه، والكرد يثأرون للشيخ مقصود، وداعش تثأر لمارع، والثوار يثأرون للكلاسة، والكتائب الطائفية تثأر لزينب والحسين، ولكن جميع صواريخ الموت تنزل برأس الحلبي البريء الذي اختار أن يموت واقفاً ويتمسك بأرضه حتى النهاية.

القراءة السوريالية ذاتها في المدن المنكوبة، من درعا إلى عين ديوار، يتغير المحاربون وتتبدل البنادق والخنادق، ويبقى الضحية واحداً وهو السوري المنكوب.

على ظهر حاملة دبابات تتمدد جثث سبعة وأربعين سورياً قتيلاً لا تختلف أحوالهم ومعاناتهم عن حال قاتليهم، فهم أبناء قرى متجاورة، وقبائل متواصلة، ويصلون خلف نفس المشايخ ويغنون نفس الأغنيات، ويحملون المشروع إياه في رغبة الخلاص من الظلم والتوق إلى الحرية، ولكنهم جميعا وجدوا أنفسهم في الخنادق المتقابلة لا يدري القاتل لم قتل ولا المقتول لم يقتل في أفظع مشهد لعبث الحياة وبؤس الحقيقة.

حتى الأنوثة أيضاً مكتملة الشعر والأناقة والعطور، وهي في مسؤولية الإعلام والكلمة والصورة تتقدم من مسرح الموت لتلتقط الصور السيلفي بقهقهاتٍ شيطانية، أمام جثث أخرى من الضحايا، لسوريين ثائرين لديهم أيضاً عيال وأطفال، يحاربون من أجلهم ولكنهم لا يستجلبون إلا الموت.

وفي جانبٍ آخر، مشهد الطيارة التي تحط كل يوم في مطار حميميم، تحيط بها سيارات الجنائز، توزع الضحايا الى قراهم لتقام عليهم التراتيل، ويحضر الجنائزيون الذين جاؤوا للتو من جنائز أخصامهم ليرتلوا لهم التمائم نفسها والتلقين إياه، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون.

أشكال أخرى من الحرب في سوريا لها مزامير أخرى، بعيداً عن النظام والثائرين عليه، وعن داعش وخصومها الدوليين، في محارقها وجوه سورية أخرى في القاتل والمقتول، في قضايا منسية تائهة، لم يكن السوري من قبل يشتريها بشروى نقير ولكنها اليوم صارت عنوان بؤسه ومعركته وفدائه وانتحاره.

فأين الإنسان في هذا الركام؟

كم ستكون تراجيديا الملهاة مرعبة عندما يقرؤها الآتون من أبنائنا.

لا شرف لبندقية ولا مجد لرصاص ولا دين لقاتل.

تحريم الرصاص .. هكذا أطلق الطيب التيزيني نداءه من دمشق، وسرعان ما انهال عليه فلاسفة الوطنية والصمود يشرحون الفرق بين الرصاص الوطني والرصاص المستورد، وبين رصاص المقاومة ورصاص المؤامرة، وبين حقه في الرأي وحقه في الخيانة!

كنت واحداً من أولئك الذين رفضوا عسكرة الثورة، وصرخنا حتى انقطع النفس لا تذهبوا إلى ملاعب الاستبداد، فالرصاص ملعب المستبد، وهو أداة الذين لا قلوب لهم، وإدارة التوحش يتقنها الجلادون ولا يتقنها الفرسان. 

ما من حكيم إلا وقف على بوابات الثورة ينهاهم عن عسكرتها لأنها جحيم وسجيل، ولكنه سرعان ما تجرفه صيحات الغرائز، ويتهمه الغاضبون بالرومانسية والخيال، ثم بالجبن والخيانة والعمالة، وبعد أن تمضي العسكرة إلى الغاية، ندرك جميعاً أننا نرقص على أشلائنا وبؤسنا وقهرنا، وأننا ذهبنا بعيداً في وادي الموت.

لا شرف لبندقية، ليس شعاراً نرفعه بقدر ما هي حكاية تتجدد فصولها كل يوم، وخلال خمس سنوات انتقلت البنادق في الحرب السورية من كتف إلى كتف، وتوجهت في صوب الاتجاهات الست، ووجد السوري نفسه يقاتل في الخندق الذي كان يقاتله، ودارت حلقة الموت بين الجيش النظامي والجيش الحر وجيش الاسلام وجيش الرحمن وجيش الشيطان، وما تيسر من جيوش أخرى لا يسعها المقال.

الصور الأخيرة لمشهد الموت، لم تعد في ثنائية النظام والمعارضة، لقد صارت في ثنائيات كافرة غير مفهومة: حلب وريفها، دوما ومسرابا، المعرة وادلب، ثنائيات في حارات متجاورة، لكل منها جيش له عقيدته وقتاله وشعاراته، التي لا تختلف غالبا الا في مزاج الفوتوشوب، ولكنها مستعدة لرصف مئات السوريين على مركب الموت دون معنى....

فإلى متى تظل هذه الحكاية المجنونة الدموية ترسم شتاتنا وضياعنا؟

النار لا تعالج بالنار، والموت لا يأتي بالحياة، والبندقية لا تنبت العقل، من قال ان النار بالنار تطفأ؟ فلينظر إلى نارين هل تطفئ أحدهما الأخرى أم تزيدها اشتعالا؟!

هل سيخرج من بين الركام صوت للعقل، يقرا التوحش بعيون متقابلة، ويرفض أن يكون جزءاً من قطارالموت المتهور؟ فكلنا ضحية وكلنا جلاد، ولا معنى للاستمرار في هذا الموت إلى ما لا نهاية.

ليست هذه كلمات لإعلام الثورة ولا لخطاب الراي العالمي، إنها كلمات نهمس بها صارخين في مسمع السوري الذي يندفع بعد كل مجزرة جديدة الى طاحونة الموت بلون جديد، وماركات مختلفة من البنادق.

وحدهم ترفع لهم القبعات رجال الله في الدفاع المدني الرائعين الذين يهرولون إلى ضفاف المأساة كلما حم موت جديد، ويعيشون بين الركام والحطام بحثاً عن بقايا روح عاثرة، وهم مشروع شهادة في كل يوم، والتحية لرجال العافية من الأطباء والممرضين الذين يصمدون عند مواقع النار ويمسحون جراح الناس ومآسيهم.

وحدهم هؤلاء يستحقون التحية والرحمة والرجاء والأمل، ووحدهم يعيشون من أجل سوريا حرة أبية لا مكان فيها لعنابر الموت ولا لشقائه ولا لفواحشه.

*مقالات الرأي المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق