الذريعة الشائعة التي تفيد بأن السوريين ليس لديهم تجارب سياسية ونشاطات تراكمية في العمل الحزبي والمعارضة المقوننة أو المؤسساتية بسبب غياب شروط كل ذلك، هي فكرة تحمل صواباً نسبيّاً لا يكفي لتكون برهانا قويا لتبرير الأداء السيئ والمنقوص والمهدور للكيانات السياسية والإعلامية المعارضة وشبه المعارضة.
لم يكن ذلك كافيا لنبرر تلك المبالغات المرافقة للمواقف والتوقعات، منذ شعار الأيام المعدودة للنظام سيسقط بعد أسابيع، حتى الحملة اللا أخلاقية على مازن درويش! وهي سيرة خمس سنوات من الدم لم يتعلم فيها السوريون شيئا ذا معنى أو قيمة. سواء أكان النظام الحاكم أو المعارضة بأشخاصها وتجمعاتها وجماهيرها.
فالتكوين السياسي الحاكم ما يزال وكأن خرابا فظيعا لم يحصل، وكأن مئات آلاف المواطنين ما قتلوا والملايين ما هجّروا، والجغرافيا ما انزاحت وأصبح عاليها سافلها، ما زال التكوين هو هو: انتخابات ودعايات وحفلات عرس وطني وفوز معلن وقائمة جبهة تفوز! وكأننا ما زلنا في الزمن السوري الثابت نفسه لم نحرك فيه شعرة.
هذا المزاج الحاكم المنغلق على صفاته النفسية والذهنية، هو حالة نادرة من الحكم في المنطقة. وندرتها ليست ميزة إيجابية أو علامة على وفرة أخلاقية، بل هي ندرة التفكير الشيطانيّ التدميري العبثي اللا مسؤول. لم يكن حتى شخص الرئيس مسؤولا أمام مُواليه وأتباعه، لم يكن مسؤولاً أمام جنوده الذين قتلوا على امتداد بقعة العمليات. والذين ساهموا في العرس الوطني لم يكونوا يحترمون حتى ذويهم ممن دفع حياته ثمنا لاستمرار هذه التركيبة السياسية المعنّدة!
لم يكن السوريّ الحزين يرى في مجريات العرس الوطني ما يثير السخرية والاستهزاء التي مورستْ. فما كان يجري أمر مؤلم وصارخٌ وفاقع ويكسر الروح. ولا ندري في أية منظومة سياسية أو أخلاقية يندرج. لا ندري أية نظرية علم اجتماع يمكن لنا أن نوظفها في قراءة هذه الحالة السورية الجماعية الهستيرية المنفلتة من كل عامل ضبط ومراقبة.
لا ندري أية مفاتيح نظرية أو عملية تشرح لنا تلك القدرة المرعبة على تثبيت السوريين لزمنهم السياسي الاجتماعي على ساعة الدبكة في الميادين والساحات، وهم في أعماقهم يشعرون مدى النفاق الذي يغرقون فيه! ومدى الرعب المهيمن عليهم أيضا. بل وكأن كل ما جرى كان مشجعا لهم أكثر على الظهور بهذا الشكل المغالي من الولاء للرئيس! فهم إن لم يفعلوا فالويل لهم من الإدانة بأنهم معارضون أو قد أثرت فيهم هذه السنوات الدموية. ونالت من عزيمتهم الوطنية!
إنه التجلي الأكثر وضوحاً على عدم نية الحكم لأي حركة تغيير واستجابة للعمل السياسي المشترك الذي تمليه مبادرات ومفاوضات ومؤتمرات. فما بالنا بنيّته على الرحيل أو استعداده الداخلي للسقوط؟ سقوطُ النظام بات الآن مهزلة إعلامية لا يتعاطاها غير السذج. (أذكر منذ أواخر عام 2011 أو بدايات 2012 قلت إن هذا النظام لن يسقط ولن يقدم أحد منه للمحاكمة، فقامت الدنيا عليّ)!
في هذا السياق المشحون بعدم العقلانية السياسية، يتم محاصرة أي قراءة رصينة متزنة لما يجري. فإذا كان تكوين السلطة السورية قائما على العناد والإلغاء وكتم أي تفكير موضوعي حرّ، فما بال من يعارض هذه السلطة يريدون أن يكونوا مشاركين له في ذلك المستوى؟ لماذا إذاً تسود لغة التخوين بين المعارضين أنفسهم؟ لماذا تتم حملات التشنيع والتشهير بجماعات سورية قومية ليست عربية من قبل رموز إعلامية وثقافية؟
ماذا جرى للعقل الثقافي المناهض حتى يسقط هذا السقوط الشنيع في اللا أخلاق ليحتقر العنصر البشري في عمله ولونه وانتمائه المذهبي؟ لماذا تظهر هذه الأحكام الارتجالية على شخص معارض يفكر بهدوء واتّزان ومنهجية وحرفية لا سيما أنه يتكلم في محفل دولي بارز عليه أن يكون بمستواه الحواري؟ وأقصد مازن درويش؟ كيف نفسر الحملة ضده وتقويله كلاماً لم يرد على لسانه أبداً؟ كيف نفسر تخوينه قبل أن تذاع كلمته المعنية؟ ولماذا استمرّ البعض بتخوينه حتى بعد أن انتشرت كلمته وتبين أنه ليس ذلك الشخص الذي اتهم بتلك الاتهامات السطحية؟ ألا يدل هذا على أن الدبكة والهمروجة في العرس الوطني، التي يسخر منها المعارضون، هي الدبكة والهمروجة نفسها يقعون فيها بلا تفكير ولا رؤية ولا صواب؟ ولكنه همروجة في عقولهم وأنفسهم وليس على الأرض؟
تؤكد قضية مازن درويش أن عرسا وطنيا حقيقيا لن يقام، لا بوجود النظام ولا بعدم وجوده، لأن المعضلة هي في العقل والأخلاق والرؤيا قبل أن تكون في أي مكان آخر.
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي "روزنة".
* تم نشر هذا المقال بموجب اتفاق الشراكة بين "روزنة" و "هنا صوتك".