أواظب على بعض المحاضرات التي تهيئ طلاب الدراسات العليا في العلوم الإنسانية لمعرفة أفضل المناهج وأخلاقيات البحوث العلمية. في إحدى الجلسات طُلب منا أن نكتب عن أكثر شخصية تختلف معها لا نحبها (لم يستخدم المحاضر كلمة نكرهها).
سجلت على ورقة اسم تلك الشخصية التي لا أحبها واختلف معها وبالحقيقة أكن له كل أنواع الكراهية السوداء المختزنة في قاع النفس البشرية. كان اسمها بشار الأسد.
طلب مني البروفسور أن أعطي الحاضرين بدقيقة واحدة الأسباب الموضوعية لجعلي لا أحب هذا " الإنسان". بنيت مداخلتي على تجريد هذا الكائن من هذه كلمة إنسان، وقلت إنه بحكم منصبه يتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية لما يحدث في بلدي وإنه مثال حي لرجل السلطة الدكتاتوري الفاسد الانتهازي الكاذب غير الموثوق به.
قال الدكتور: ما تقوله مزيج من الرأي الشخصي والانطباع العاطفي والآن أريدك أن تعكس الموضوع. لنفترض أنك من الموالين أو المحبين أو المنحازين لهذا " الإنسان" أريدك بدقيقة واحدة أن تفكر بعقل من يحبه وتحاول أن تقنع الموجودين هنا بوجهة نظرك.
ضحكت بداية ووجدت أنه من الصعوبة بمكان أن أقوم بذلك؟ شجعني أكثر لأبذل شرف المحاولة، قلت له: هذا الأمر يحتاج إلى ممثل محترف ليفصل ذاته عن موضوعه.
قال: هذا ما يجب أن تتحلى به إن كنت تريد أن تدخل في الدراسات العليا. هنا لا نريد أن نعلمكم كيف تكتبون بحثا علميا موثقاً ولا منهجية البحث العلمي فقط بل تدريبكم على قبول أخطر أنواع الآخر.
لنفترض أنك أستاذ في معهد، وتقدم لك طالب ببحث علمي فيه كل الموصفات المنهجية ولكن موضوعه ونتائجه لا تتناسب مع عواطفك ومواقفك الأخلاقية والسياسية. كيف ستتصرف؟
ثم قال شيئا توقفت عنده طويلا: ما تكرهه يتغذى على كراهيتك مثل ما تحبه تماما.
أفكر بحال البلد وهذا التمترس الحاد والانشراخ الذي أودى بنا إلى شطرين وعلمين وفكرتين وفريقين وأفكر بأول الجمل العظيمة للثورة السورية البلد "أنا وأنت وليس يا أنا يا أنت"؟
أفكر بهذا اليوم 18 أذار مارس عام 2011 يوم افتتح زمن الدم بأول شهدين محمود الجوابرة وحسام عياش وكل ما قيل وسيقال عن السبب والمسبب وأحسم أمر موضوعيتي بتحميل كل المسؤولية لذلك الكائن الذي تحدثت عنه أعلاه.
ولكن أود هذا العام أن أرفع سقف الخيال أعلى، محاولاً تناسي حجم الألم والنزيف والتفكير بطريقة ما لتحويل هذا التنافس الدموي إلى شيء آخر. نعم نحن منقسمون إلى فريقين فلنجرب نوعا آخر من التنافس، ليكن لدينا منتخبان في كرة القدم يلعبان تحت ظلِّ علمين.لنعطي أنفسنا كل الحق بالصراخ على المدرجات بكل ما لدينا من قوة ولا مانع من الشتائم للحكم.
ليكن لدينا فريقان للرماية، وعوضاً عن رؤية مهارة القناصين في الشوارع والمناطق المتشابكة، لنوظفها ولو لمرة في منافسة شريفة على صحون طين ودريئة غير بشرية لا مانع أيضا من التشجيع والتباهي لكل جمهور برماته ويمنع ترديد جملة وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
ليكن لدينا فريقان من العدائين واحد للمعارضين وآخر للموالين بدل الهاربين من القصف.
ليكن لدينا فرقان من السباحين ليتنافسوا على سرعة الوصول وكسر الأرقام القياسية عوضا عن سباق الغرق السوري.
ليكن لدينا فرق من المهندسين المعماريين ليتنافسوا على إعادة بناء المدن أجمل مما كانت.
ليكن لدينا أولمبياد سوريا كاملة بكل شيء، لا مانع أن نكون محملين بجماهير تصيح وتهتف وتشجع وتسب أيضا، وليكن التنافس على ألف ميدالية.
لننظم مسابقة للثقافة السورية الوطنية بين المعارضين والموالين، لننظم مسابقة لأمير شعراء سورية بكل أنواع الشعر وليكن التنافس بين شعراء الجهتين، لننظم بوكرا للرواية السورية يشارك فيها الجميع، ومسابقة للشرعيين من الجهتين الفائز من يعلي قيمة القرآن ويمجد صورة الإنسان المخلوق على أحسن تقويم. لننظم مسابقة لرجال الدفاع المدني من كلا الجانبين من الأسرع بالأنقاذ والأكثر قوة وشجاعة. لننظم مسابقة لأجمل الأصوات للصغار والكبار، ونجلس نصفر ونصفق كل لفريقه، لننظم تنافسا شريفا للرياضيات نتوج الفائزين الستة الأوائل ونمنع أي حاصل على مركز سابع من الجهتين من الإدلاء بأي تصريح.
لننظم حلبات للمصارعة وفق القوانين العالمية، نحتشد بالملاعب لنهتف كل لبطله في الكارتيه والجودو والمصارعة والملاكمة وحتى المصارعة اليابانية ولنحول كل الكراهية والرغبة بمحق وسحق الآخر إلى رياضة. موسيقى وأدب وتنافس على الإغاثة، والمساعدة وبث الأمل وتعليم الأطفال وإيواء المشردين.
لننظم مسابقة لأكثر السوريين أمانة ممن وجد شيئا وأعاده لأصحابه ونخترع "الإكس فاكتور" السوري لمواهب السوريين جميعا بالتساوي بين الطرفين.
لننظم مسابقات للمخترعين والمتفوقين في الفيزياء والاختراعات والطب والقدرات الخارقة من الجهتين في فنون البقاء. ونقلد الفائز أوسمة الشرف مع الميداليات.
لننظم مسابقات لأكثر السوريين عطاء ومساعدة للفقراء من الجانبين ونراهم يتنافسون على التتويج ونحن نصب كل تشجيعنا لمن ننحاز لهم من فريقينا. ونرفف كل واحد منا بعلمه. للنظم مسابقة لعمال النظافة في المنطقتين ونرفعهم كأهم الناس احتراما لما فعلوه خلال الخمسة السنين الماضية.
لكي تنجح هذه الأولمبياد يجب علينا أن نحجر من كلا الطرفيين طوال فترة التنافس:
كل السياسين دون أي استثناء، كل الإعلاميين الموتورين الذين يخرجون في برامج سياسية، كل القادة العسكريين على كل الجبهات. يتم ربطهم ووضعهم في ملاجيء حتى تنتهي البطولات. نوقع على هدنة الصمت وبدل القذائف والشتائم التافهة نرسل فرقنا المتنافسة إلى الميدان، ليس مطلوبا أن نحب بعضنا ولا أن نتواصل مع بعضنا ولا أن نتكلم عن البلد الواحد والشعب الواحد بل منافسة كاملة نزيهة وشريفة. وهنا سأقترح المسابقة الأصعب على الأطلاق أن ينتخب كل فريقٍ طاقماً إعلاميا ميدانيا ممن ينتجون الوثائقيات والتقارير المصورة على أن يقوموا بما يلي: يتولى فريق المعارضة تصوير معاناة فقراء وضحايا الأبرياء من المواليين ويتولى فريق إعلامي من الموالين بتصوير وثائقي عن الفقراء والضحايا الأبرياء في مناطق المعارضة. والوثائقي يعتمد للتدريس في الأمم المتحدة.
وبعد أن ينتهي توزيع الميداليات الألف سنحصي الخاسرين ويتولى الفائزون فترة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات ثم يصار بعدها لتشكيل جيش موحد من كل هؤلاء لطرد الغرباء ومحاكمة مجرمي الحرب.
نعم تبدو الفكرة ضربا من السذاجة والحلم. لكن بعض السذاجة لا تضر وكثير من الأحلام لا تموت.
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي "روزنة".