ما الذي يمكن أن يكتبه رجل دين مثلي، في مقام الراحل السوري الكبير جورج طرابيشي، والرجل عاش في معبده في الفلسفة والترجمة، وغادر من هناك ولم نتقاسم يوماً معا قداساً ولا محراباً؟
بطبيعة الحال، لم أكن من أصدقائه المقربين ولم يجمعنا معاً سوى منصة واحدة، تقاسمناها في مؤتمر العلمانية في المشرق العربي 2007، الذي تم تنظيمه في المعهد الدنمركي، بمشاركة جوهرية من لؤي حسين ووائل سواح، ولكن حضوره وكتابه وقلمه كان بالنسبة لي خير جليس في الأنام.
عاش طرابيشي هوس التراث بكل عنائه وقهره، وكان يوقن أن جانبا كبيرا من الكارثة العربية لا توجد أسئلتها في الواقع بل في الماضي، وكان يعتصم في قراءاته دوما بعابد الجابري كفارس نفض عن كاهله عناء القرون.
لم يكن ذلك المسيحي الماركسي المستقر فرويدياً في النهاية، يرى أن النص الديني محض شأن إسلامي إنه جوهر الصراع الحضاري، وهو المنصة التي ينطلق منها قطار الحداثة، وأن أي توجه للمستقبل لن يتم إلا على سكة الماضي، وكان رهانه بالغ الشجاعة حين كرس جانباً كبيراً من دراساته للتأكيد على العقل الإسلامي العلماني في فكر المعتزلة وإخوان الصفا، والمنبر العقلاني الحر الذي نصبه أبو حنيفة وأصحابه، وكرسه الشاطبي والطوفي، وتأسست به مدرسة النهضة في مصر التي لا تزال تقدم قوافل العقلانيين العرب في غمرة طوفان سلفوي جارف.
كتب طرابيشي بعمق في الأصولية الدينية التي تتصدر مشاكل العرب، ودخل بعمق حلبة الصراع التراثي، وفي عنوان بالغ الدلالة أصدر كتابه الأخير من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، وهو يؤكد ما نشاهده كل يوم، أننا كلما أوغلنا في الماضي كلما أصبحنا أكثر تشدداً، وأننا نعاني في قيامنا بين تأمثل الماضي وتأدلج الحاضر، ولا خيار لنا إلا بناء قاسم علماني مشترك يهتدي بالآباء ويرحم الأبناء، ويأخذ من تراث الآباء الجذوة ويعاف الرماد.
ومهما كانت رؤيتنا للطرابيشي، فإنه لا مندوحة من القول إنه الرجل الذي أتاح للقارئ العربي فرصة الاطلاع على أعمدة الفلسفة والحكمة، بلغة المترجم الفيلسوف، وهو من وقف وراء علم الجمال لهيجل والفوضى والعبقرية لسارتر والانسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركوز، ولكن شغفه الأكبر ظل في فتح نوافد سيجموند فرويد على العالم العربي، وترجم له 13 كتاباً، ونحن مدينون بكل ما نعرفه عن فرويد لقلم هذا الكاتب الموسوعي الكبير.
وفي قراءة عفوية راح يقدم لنا فرويد على المنصة الانسانية ذاتها التي وقف عليها الحكماء والأنبياء خلال التاريخ، ومع أنه لا يسبغ عليه أي قداسة، ولكنه تمكن من نقل أفكاره للقارئ العري بدون أسوار من الوهم المريب التي طبعت علاقتنا بفرويد ومدرسة التحليل النفسي التي يتبناها، وأصبح بإمكانك تماما أن تقرأ فرويد نفسه في هرمونوطيقا النص القرآني، فتكون الهو الفرويدية هي النفس الأمارة بالسوء والأنا هي النفس اللوامة والأنا الأعلى هي النفس المطمئنة، وأصبح بإمكانك أن تتحدث عن السوبر إيغو، كقيمة علمانية قرآنية تتربع من جانب على أعلى هرم ماسلو الإنساني في تحقيق الذات، وتطل من جانب آخر على خليفة الله السارح الذي يمشي على قدمين وتسجد له الملائكة أجمعون.
وحتى لا أتهم هنا بممارسة التبشير الديني بالتقاط إيماءات الفلاسفة وتبريرها فقهياً، فإن جوهر مشروع الطرابيشي هو أنه رفع القداسة عن الافكار ثم أظهر تشابهها، وسلك في الوعي بالعقل الإنساني فصل المقال في بيان ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال.
ومع أنه في الترجمة لم يمارس أي إيديولوجيا، ولكنه نجح في تعبيد الطريق لفهم صحيح للفكر العالمي بعيداً عن جهود الكهنة في التقديس والتدنيس.
وكمفكر قومي، كان طرابيشي لا يتردد في وصف الواقع العربي بأنه أزمة رجعية وتخلف ونظرة ماضوية لا تملك توثب العيش في الحاضر، ولكنه أدرك مبكراً أن السر لا يكمن في التعاليم الدينية، وفي رسالته الختامية التي كتبها العام الماضي بعنوان "ست محطات في حياتي"، يشير أنه واجه العقل التكفيري الإقصائي صغيراً في درس الديانة الإسلامية الذي أصر أن يحضره رغم كونه مسيحياً ولكنه سرعان واجه العنت نفسه، في حوار مع زملائه المسيحيين بشان قانون الشرف وإصرارهم على مسؤولية الذكر في قتل الأنثى المتورطة في الحب.
كتب طرابيشي آنذاك وصف العقل العربي بلغة فرويدية خالصة (جبل الثلج) ما يمكن اعتباره جوهر دراساته التي كتبها في صراع الأصالة والحداثة: "إنها ليست قضية تفكير ديني إسلامي أو مسيحي، إنها قضية بنى عقليّة في المقام الأول، ففي داخل المخّ البشري تتواجد طبقتان: طبقة فوقية سطحية يمكن أن تكون سياسية، تقدمية، اشتراكية، وحدويّة، وطبقة بنيوية تحتيّة داخل هذا المخّ رجعيّة حتّى الموت، سواء كان حاملها مسيحيـاً أو مسلمــاً. "
وفي شجاعة ثائرة ناقش هذه الحقيقة في كتابه العقل المستقيل في الإسلام، وفي قراءة متحسرة على مآل المشروع الإصلاحي العربي كتب كتابه الشجاع: من النهضة إلى الردة.
في النهاية وبعد جولة طويلة مع هيجل وماركس وسارتر وبعد عكوف طويل على فرويد وعابد الجابري وصدمة ثقافية موجعة بموقفه من إخوان الصفا أعلن الرجل مكانه كفيلسوف حر، وأنه لا يليق به إلا النقد وأن النقد وحده هو مكان الفيلسوف، وكان آخر عمل قدمه للمكتبة العربي هي دراساته المتتالية في موسوعته الضافية التي أطلق عليها: نقد نقد العقل العربي.
نودع اليوم جورج طرابيشي، ومعه تراث 77 عاماً أمضى جلها في البحث والكتابة، وترك حروفه باقية وصريحة وواضحة، لقد أطلق برنامجاً أسطورياً لإصلاح التراث، وظل بشجاعة يتصدر مشهد بيوريتانية المشروع العلماني العربي، ومع أنه رحل ولم يشاهد قطاف ثمره ولكنه سيبقى في ضمير السوريين أبرز نوافذ المعرفة والحكمة التي نطل منها على الثقافة الأوروبية، وأبرز روائز العقل النقدي في المشروع النهضوي.
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي "روزنة".